لم تشذ مدينة كتونس عن باقي مدن العالم فقد أنتجت منذ مطالع القرن الماضي حدثها الخاص: مباراة في كرة القدم بين الترجي الرياضي والنادي الإفريقي. تكمن قيمة الدربي في كونه قابلاً للتعداد حيث نصل اليوم إلى العدد 107، رقمنة الدربي تعني إخضاعه لرقابة المدينة و حساباتها، فالمدينة تحصي ساكنيها ومبانيها وسياراتها وطرقها وطاقة استهلاك أهلها ودرجة تلوث هوائها إلخ... الدربي هو الآخر له المدينة التي تحصيه عبر أجهزتها الإعلامية. فهل فرض نفسه على المدينة وأجبرها على أن تدخله في حساباتها أم أن المدينة هي التي تحتاجه حدثًا يميزها فتعطيه من العناية ما يجعله إحدى علاماتها وشأنًا من شؤونها؟ بدأ تعداد الدربي مع دولة الاستقلال وما سبقه لا يدخل ضمن حساباتها. إن تعداد حدث ما كالدربي هو بشكل آخر مساهمة في تعريفه وبالتالي في احتكاره. الدربي ليس مباراة فقط، إنه تشكيلة اجتماعية من بديهيات العلوم الاجتماعية اليوم النظر للعبة كرة القدم كظاهرة اجتماعية كلية. ولكن من السذاجة أيضا الاستخفاف بقيمة اللعبة إلى الحدّ الذي نتساءل معه عن كيفية حصول ما جرى مؤخرا بين الجزائر ومصر على خلفية مباراة في كرة قدم. لم ينزعج المحللون لما حصل بين البلدين فقط وإنما كان انزعاجهم من كيفية حصول ذلك بسبب مباراة في كرة القدم وهذا في اعتقادنا قصور كبير في فهم عمق الظاهرة. إن كرة القدم في قلب المدينة وفي قلب العلاقات الدولية والمحلية أيضا لأنها كأي نشاط بشري منتجة للمعنى ومشكّلة للهويات الفردية والجماعية وبالتالي فهي منتجة للعنف الذي هو في أغلبه عنف رمزي ومسرحة له. ولهذا اعتبر محمود درويش لعبة كرة القدم أشرف الحروب البشرية. ولأن كرة القدم هي أحد تجليات المدن الحديثة فإن الدربي هو الحدث الذي يختزل بكثافته الرمزية أشكال العيش المشترك في فضاء حضري. الدربي هو إذن مختبر نقرأ من خلاله مدينة تونس وما طرأ عليها من تحولات عديدة. الدربي هو شكل من أشكال تمثل المدينة يبتكرها ويمسرحها ويوفر للفاعلين داخلها أنماطًا جديدة من الروابط الاجتماعية. يعدّ الدّربي مجالا لبناء الهويات الفردية والجماعية بما يوفره من رموز يستقي منها الأفراد عناصر هوياتهم فيضعون أنفسهم في مواجهة آخر غريم يقيسون به أنفسهم ويعرفون من خلاله ذواتهم ولهذا لا معنى لانتماء لفريق دون حضور للفريق الآخر لأن الحدود الرمزية بين الفريقين هي التي تغني الدربي بالمعاني التي تجعله من بين الأحداث البارزة في المدينة وخارجها. إن الدربي ليس تشكيلة من اللاعبين والنتائج والبطولات فقط إنه أيضًا انتماء لفضاء حضري يتمّ إبرازه كواجهة للفريق في إشارة قوية على عراقة الانتماء وتجذره ولذاكرة يقع تنشيطها وفق سياقات الجدوى الرمزية ولنمط عيش ولتصورات للوجود. يؤكد ذلك عالم الاجتماع الفرنسي آلان اهرنبرغ حين يقول «إذا لم تكن الرياضة هي كل المجتمع، فإن كل المجتمع موجود في الرياضة». دربي العاصمة: التمثلات الرمزية للفضاء الحضري والحق في المدينة تمثُّل الفضاء الحضري هو أحد مكونات دربي العاصمة وأبرز الرهانات التي يعطيها مناصرو الفريقين عناية لافتة. ربض «باب سويقة» هو الفضاء الرمزي لفريق الترجي الرياضي التونسي في حين شكل ربض «باب الجزيرة» و«باب الجديد»، الفضاء الرمزي لفريق النادي الإفريقي. ولكن هذا الارتباط بين فريقين وفضاءين لم يكن إلا نتيجة لتحولات ديموغرافية ومورفولوجية عرفتها مدينة تونس عقب الحرب العالمية الأولى. فخلال هذه الفترة الزمنية غادرت أغلب العائلات البرجوازية «المدينة العربي» في اتجاه ضواحي العاصمة للسكن والعيش ضمن أجواء مغايرة لما سبق. في الأثناء شهدت مدينة تونس أهم حركات النزوح من الأرياف واستقر الوافدون الجدد في هذه الفضاءات المتروكة بخلفيات متعددة وبأصول مختلفة وبأنماط عيش غير متشابهة فغابت الحدود الرمزية بين الجماعات وتداخلت دون أن تنتج مرجعية هوياتية واضحة المعالم فلم يعد الانتماء للربض بنفس معاني ما سبق. الكل يبحث عن طرق للإندماج في المدينة وعن تضامنات جديدة تعوض التضامنات التقليدية. هنا تمت إعادة تعريف «باب الجديد» كفضاء تضامني على خلفية جديدة هي احتضانه فريقًا ناشئًا هو النادي الإفريقي وجد فيه المتساكنون الجدد سبيلاً لروابط اجتماعية تجمع حولها من كانوا من أصول ومشارب مختلفة حديثي الإستقرار بالمكان. تفيد المعطيات التاريخية أن تشكل العلاقة بين فريق الترجي و«باب سويقة» لم تتضح معالمها النهائية إلا مع بداية الأربعينيات من القرن الماضي. قبل ذلك كان الفريق وكانت أمكنة تفاعلاته الاجتماعية منحصرة بين القصبة وباب البحر. وحتى المقهى الذي تأسس فيه النادي سنة1919 كان يحمل اسم «مقهى الترجي» وهو المقهى الموجود في نقطة التقاء نهج الجزيرة ونهج مصطفى مبارك في باب البحر، وهو الذي أعطى اسمه للنادي. تشكلت حول الفضاءات الرمزية للناديين تمثّلات متناقضة. فقد برزت علاقة بين «باب سويقة» والحركة الوطنية والترجي الرياضي مؤشراتها البارزة وجود مكتب المحامي الحبيب بورقيبة زعيمًا جديدًا للحركة الوطنية في باب سويقة واهتمامه الواضح بالفريق حتى إنه انتخب نائبًا لرئيس الترجي من 1931 إلى 1933 يضاف لهذا انعقاد مؤتمر الحزب الحر الدستوري الجديد سنة1937 في نهج «التريبونال». هذه العلاقة الرمزية بالفضاء ستجعل نادي الترجي أكثر التصاقًا بهموم الحركة الوطنية وستجعل منه أيضًا النادي الأكثر شعبية آنذاك من غريمه النادي الإفريقي الذي انحصرت تفاعلاته الاجتماعية كناد رياضي وثقافي في إقامة العروض الثقافية في المسرح البلدي وبرزت أسماء عبد العزيز العقربي وعبد الرزاق كرباكة كأحد الفاعلين المهمين في حياة النادي وستصاغ حول النادي الإفريقي صورة نادي «البلدية» بكل المحمولات الرمزية والاجتماعية. وستظهر المنافسة بين الناديين على قاعدة أن أحدهما ناد شعبي وهو الترجي الرياضي والآخر نخبوي وهو النادي الإفريقي. اعتمد الترجي الرياضي لبناء هويته كفريق شعبي خلال الأربعينيات من القرن الماضي على أمكنة مثلت فضاءات للتلاقي وبناء الروابط الاجتماعية وبرزت مقاهي «عند دراوة» و«تونس» و«الطاهر زنقة» في «باب سويقة»، ومقهى «بن زيد» في باب سعدون، ومقهى «الفزاني» في الحلفاوين، كأشهر فضاءات التقاء لمناصري فريق الترجي الرياضي في تلك المرحلة وتدعيمًا لتماهي النادي «بباب سويقة». لا تحافظ التمثلات الرمزية للفضاء الحضري على نفس المضامين وسيعيد الدربي صياغة أمكنته وفق التحولات المجتمعية واستراتيجيات الفاعلين وهوية الناديين. لم يعد «باب سويقة» الفضاء الرمزي الوحيد للنادي وستظهر في الأثناء أمكنة مثل حديقة الرياضة «ب» التي أصبحت منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي المركز الفعلي لهوية النادي الجديدة، كناد يُدار بعقلية المؤسسات وفي هذه الحالة انتقل «باب سويقة» إلى مكان للذاكرة يزار في المناسبات الكبرى. توسعت فضاءات الدربي في كل الاتجاهات بتوسّع النسيج الاجتماعي للمناصرين وظهرت أحياء مثل «الزهروني» الذي يعدّ اليوم من أبرز الفضاءات التي تعاد فيها صياغة هوية الناديين ويصاغ داخلها أيضًا الحق في المدينة. ولكن في لعبة الرمزيات ولتأكيد عراقة كل ناد، لا يتوانى المناصرون من كلا الناديين في إبراز هوية موغلة في الماضي بإعادة تملك فضاءات القصبة، المدينة، الصباغين، الحلفاوين. نجد هذا الشغف بالأمكنة التاريخية في البوابات الإلكترونية للناديين وفي أغاني المناصرين في المدارج وهو شغف بالمحليّ من أجل إبراز البعد الأشمل لهويّة الناديين. لا يهمنا الدربي كلقاء كروي بين الترجي والإفريقي بقدر ما يهمنا سوسيولوجيًا كعلاقة بالفضاء وبالذاكرة وبصياغة الهويات وبأشكال التنشئة الاجتماعية غير التقليدية التي يوفرها لفئات الشباب، ويهمنا سبيلاً للارتقاء الاجتماعي وبناء الإستراتيجيات الفردية والجماعية. يهمنا الدربي أيضا كجمالية جديدة للمدينة، من خلال موسيقى الأغاني ومضامينها وطقس «الدّخلة» الذي لم يعد مقتصرًا على الملاعب فقط. ويكشف لنا الدربي هذا الهوس بالتجلي. وهذه الرغبة المتواصلة لدى المناصرين كي ينظر لهم كمشاركين وكفاعلين في هندسة المدينة وفي هندسة الموت أيضًا حين نُفذت وصية أحد مناصري النادي الإفريقي بطلاء قبره بالأحمر والأبيض. في البوابة الإلكترونية لإحدى مجموعات «الأولترا»، وفي تعريف للذات لا يخلو من عمق، كتب ما يلي: «لسنا مجرد مجموعة، وإنما هو أسلوب لنا في الحياة»... وفي ما بعد الحياة أيضًا... محمد جويلي (قسم علم الاجتماع، جامعة تونس)