تونس الصباح : اثاركتاب جديد نشره الاستاذ الجامعي محمد الرحموني المختص في الدراسات الحضارية عن "الدين والايديولوجيا" (عن دارالطليعة ببيروت) ردود فعل متباينة في الاوساط الجامعية والثقافية.. وهذا الكتاب المثير واحد من كتابات الجامعيين التونسيين التي اصبحت تهتم اكثر فاكثر بالخلفيات الثقافية والعقائدية للمستجدات السياسية الانية.. ووهو تمش رحب به بعض الباحثين والجامعيين وانتقده آخرون خوفا من تاثير المعطيات السياسية المعاشة على توجهات المثقف والكاتب وعلى منهجيته التي يفترض ان تكون اساسا اكاديمية.. على هامش هذه الضجة كان هذا الحوار مع الاستاذ محمد الرحموني.. مؤلف هذا الكتاب المثيرللجدل.. والذي الف قبله عدة كتب اخرى صدر من بينها كتاب عن "الجهاد".. واخرعن "ادبيات النقد الذاتي في الفكر العربي من النكبة الى غزو بيروت" (الجزءالاول ).. وفيما يلي نص الحوار : * لنبدأ من البداية ، أي من مقدمة كتابك عن " الدين والايديولوجيا": القارئ للمقدمة التي خصصت جزءا منها لتعريف الإيديولوجيا لا يظفر في النهاية بأي تعريف محدد وواضح ؟ - هذا صحيح إلى حدّ ما ولقد ذكرت منذ البداية أن مفهوم الإيديولوجيا مفهوم متحرك وفضفاض كما أنه" يعاني" من مزاحمة مفاهيم كثيرة مثل العقيدة والذهنية والفكر والبنية الفوقية الخ. إنه مفهوم مكتظ التعريفات وهذا بشهادة أغلب المختصين في الموضوع ولذا فإن الحل الأمثل في التعامل معه هو اعتباره مفهوما تحكميا - شأن مفاهيم أخرى مثل الدولة والأمة...- نستعمله حسب حاجتنا وأهدافنا وعلى هذا الأساس ركزت في بحثي على البعد السياسي للإيديولوجيا. اعادة النظرفي المفهوم السائد للجهاد * في مقالك الأول من الكتاب عن الجهاد يبدو أنك طبقت منهجا فيلولوجيا هل لك أن توضح لنا الهدف من ذلك؟ - بالتدقيق اعتمدت مقاربة ايتيمولوجية، والإيتيمولوجيا (علم أصول الكلمات) تعني أمرين، فهي تعني من ناحية البحث عن المعنى الأول أو الحقيقي للكلمة وتعني من ناحية ثانية البحث عن المعنى أو المعاني التي همشت وأقصيت لحساب معاني أخرى هي ليست بالضرورة الأصح والأفضل. ومن هنا فإن معنى الجهاد الذي ساد وانتشر(قتال الكفار والخوارج والنفس الأمارة بالسوء) ليس هو المعنى الوحيد وليس هو المعنى الصحيح فهناك معاني أخرى أقصيت لأسباب إيديولوجية وسياسية وتاريخية ومع ذلك فهذه المعاني لم تطمس نهائيا إذ مازالت بعض كتب القدماء وكذا المعاجم تحتفظ ببقايا هذه المعاني. تجاوز مفهوم "القتال" * رؤيتك هذه تعني أنه يجب أن نلغي كل ما كتبه القدماء والمحدثون عن الجهاد؟ - ينبغي أن أذكّر الجميع بأنني أنجزت أطروحة كاملة عن الجهاد بما هو قتال واعتمدت في إنجازها على المصادر والمراجع المعهودة التي يلجأ إليها كل باحث في الموضوع. ثم إنني لم أدع إطلاقا في رؤيتي الجديدة للجهاد إلى إلغاء المعنى السائد للجهاد أو اعتباره معنى زائفا وإنما دعوت إلى تعديله مستندا في ذلك إلى نص أعتبر أنه مهم وفريد هو "السير الكبير" لمحمد بن الحسن الشيباني (فقيه من القرن الثاني للهجرة) . وإليك خلاصة هذه الرؤية الجديدة " الجهاد في الإسلام أعمق من أن يكون حربا أو غزوا أو معركة أو قتالا أو مجاهدة للنفس الأمارة بالسوء بل هو إيديولوجيا تهدف إلى إخراج العرب من البداوة إلى الحضارة وكان القتال شأنه شأن اللباس والزينة والسلوك والطعام عنصرا من عناصر هذه الإيديولوجيا وقد عملت متضامنة ومتزامنة على نقلة نوعية للعربي من البداوة إلى الحضارة". تسرع؟ * ألا ترى أن هذه الأفكار متسرعة وبحاجة إلى التأني والتروي: فكيف تعتبر الفلاحين والبدو كفارا وكيف تعتبر المبالغة في الزينة ولبس الحرير ظواهر بدوية؟ - أنا على وعي بذلك وقد سميت هذه الرؤية الجديدة "مغامرة" (ص27). ولكنها مغامرة مبنية على قاعدتين على قدر من الصلابة تتعلق الأولى بمجال " الإسلاميات أو الإسلامولوجيا" عموما فلا أحد ينكر أنها قامت منذ البداية على "مجادلة السائد" وقد حرص محمد أركون - رائد الإسلاميات أو الإسلامولوجيا - على التشديد دوما على أن الإيديولوجيا الإسلامية الرسمية قد حرصت منذ البداية على ألا تنقل إلينا إلا نسخة معينة من التراث عملت الكتابة والنقل والتكرار على ترسيخها على حساب نسخ أخرى متعددة. ومتنوعة. مجادلة السائد هذه هي التي يتبارى فيها أساتذة الحضارة في الجامعة التونسية ويتنافسون بكل قوتهم وجهدهم وهناك أراء ورؤى بخصوص الإسلام تدرس في الجامعة التونسية لو قدر لها أن تنشر بين الجمهور لأحدثت " فتنة" في البلاد. ولكن يبدو أن البعض يفهم مجادلة السائد في اتجاه واحد وحيد. أما القاعدة الثانية فتتعلق بموضوع الجهاد فرؤيتي للموضوع ليست" بدعة" ويمكن في هذا المجال مراجعة ما كتبه المفكر الكبير عبد الله العروي في الباب السابع من "مفهوم العقل" (أو مراجعة ملخص له في مقالي ص 14). أما مسألة علاقة الزراعة والبداوة بالكفر فهي ليست من ابتداعي بل استندت فيها إلى ما ذكره محمد الشيباني في السير الكبير حيث روى أحاديث وآثارا تربط بشكل صريح وواضح بين الزراعة والكفر وبين البداوة والكفر وما على المهتمين سوى العودة إلى الكتاب وإلى مصنفات الحديث النبوي وإلى القرآن الكريم الذي يعتبر الأعراب أشد كفرا ونفاقا من غيرهم من أصناف الكفار. إضافة إلى ذلك فقد بينت كتابات حديثة كثيرة هذه العلاقة وخصوصا كتابات Giles Deleuze وMax Weber (ونفس الملاحظات تنطبق على مسألة الزينة ولبس الحرير). وسأكون سعيدا جدا لو بين لي أهل الاختصاص الجادون وذوو الكفاءة والمصداقية أنني زيفت قراءة كل هذه النصوص القديمة والمراجع الحديثة التي عدت إليها في موضوع علاقة الزراعة والبداوة بالكفر؟؟؟؟ * ولكن لماذا اعتبر الفلاح والمزارع والبدوي كفارا؟ - هذا سؤال وجيه جدا. لابد أن أنبه قبل كل شيء أن الأمر يتعلق حصريا بالمجتمعات القديمة. إن الكفر هنا يعني الجهل بالدين (ومن هنا جاءت عبارة الجاهلية) ويعود الأمر إلى كون هذه الأصناف وما شابهها تعيش بعيدا عن المدينة حيث الدين وبالتالي فهي لا تجد المؤسسات الكفيلة بتعليمها مبادئ الدين وشرائعه. ومن المعلوم تاريخيا ارتباط الدين - وخاصة الإسلام - بالمدينة. إن تاريخ الأنبياء والأديان يبين "أن الله لم يبعث قط نبيا من بين الأعراب" وقد أكد هذه " الحقيقة" جيل دولوز وهو من هو؟ وفي تاريخ الإسلام تحديدا اعتبر المتعرّب (الذي عاد إلى سكنى البادية بعد التوطن في المدن) مرتدا. كما كانت هجرة الأعراب في بداية الإسلام فرضا كما بين ذلك محمد الشيباني والأمثلة والمدعمات لهذه العلاقة بين الكفر والزراعة والبداوة لا تكاد تحصى..... الاهداف السياسية اهم من الاهداف الدينية * الا تعتبر ان من بين الأفكار التي بدت متسرعة في كتاباتك أيضا قولك إن الرسول كان مروّجا لأفكار سياسية وأن هدفه الأساسي هو توحيد العرب وليس نشر التوحيد؟ - مرّة أخرى أذكر بأنني لا أنفرد بهذه الآراء فهي موجودة بصيغ أخرى لدى باحثين كبارا من أمثال هشام جعيط وماكس فييبر. من ناحية ثانية فإن الأمر مرتبط تحديدا بالفترة المدنية من سيرة الرسول التي بدا فيها الجانب السياسي أوضح من الجانب الديني رغم صعوبة الفصل بينهما فالكثير من تعاليم الرسول في تلك الفترة هي تعاليم سياسية أكثر منها دينية خصوصا ما تعلق بالحرب لأن غاية الرسول في ما أرى هي توحيد العرب و تأسيس دولة وبدون ذلك لا يمكن نشر الإسلام بينهم. وقد تأكد ذلك في ما عرف في ما بعد بحروب الردة. تاثر الاسلام الصوفي بالهندوسية * ننتقل الآن إلى مقالك حول العلاقات الإسلامية الهندية : ألا ترى أن النتائج التي توصلت إليها ( وجود تجانس بنيوي في التجربة الميتافيزيقية بين الهندوسية والإسلام الصوفي) غير مطمئنة بما أنك اعتمدت مصدرا واحدا هو البيروني؟ - البيروني ذو قامة علمية أعلى من جبال الهملايا فهو" أمة" في ميدانه. ومع ذلك فقد دعمت آراءه في الهند بما كتبه الشهرستاني في " الملل والنحل" وما كتبه صاعد الأندلسي في " طبقات الأمم" وبما كتبه طاهر المروزي في "طبائع الحيوان". وقد كانت آراؤهم مطابقة بشكل كامل لما كتبه البيروني في الموضوع. ودعمت هذه الآراء بما ورد في الدراسات والبحوث الحديثة والمعاصرة أذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر كتاب داريوش شاياغان عن العلاقة بين الهندوسية والصوفية ( أطروحة دكتورا الدولة نوقشت بالسوربون سنة 1968) وكتاب Esquisse d'une histoire de la philosophie indienne لPaul Masson Oursel . الهند قبل الاسلام * هذا المقال يحتوي أيضا على أفكار "غريبة" منها قولك إن الهند ليس لها تاريخ حتى دخلها المسلمون؟ - إذا فصلنا هذه العبارة عن سياقها الذي وردت فيه فهي فعلا غريبة ومجانبة للحقائق التاريخية لذا ينبغي الانتباه إلى السياق الذي وردت فيه فالمقال يتحدث عن التجانس الديني بين الهند والإسلام عموما والتصوف بصورة خاصة أي أنه يقدم رؤية دينية لتاريخ الهند ومن المعلوم أن البيروني قد زار الهند في مرحلة إحياء الفكر الهندوسي وقد تمثل هذا الإحياء في نزوع الهندوسية نحو التوحيد الذي يعتبره المسلمون خاصيتهم. ومن هنا كتبت حرفيا في مقالي " خلاصة هذا التجانس.... هو حصيلة علاقات تاريخية قديمة، فقد قيل إن الهند لم يكن لها تاريخ حتى دخلها المسلمون " (ص113). وعبارة قد قيل لا تحتاج إلى توضيح ثم إن السياق يبين أن المقصود أن الهند لم يكن لها تاريخ "حقيقي" (تاريخ التوحيد) حتى دخلها المسلمون. وعلى العموم هذه الفكرة ليست هي جوهر المقال فهي فكرة فرعية. وإلى ذلك فقد دافع عنها باحثون ذوو شأن وقول في الموضوع ( راجع المقال). تعقيدات * تحدثت بشيء من السهولة عن العلاقة بين التصوف الإسلامي وعقائد الهندوسية فيما أن الجميع يعلم استغلاق المدونة الصوفية وتعقدها وصعوبة تناولها؟ - لقد كان الأمر كذلك ولكن بفضل البحوث والدراسات ذللت هذه المدونة. وفي الجامعة التونسية قدمت أطروحات عديدة ساهمت في فك مستغلقات هذه المدونة أذكر منها أطروحات لطفي عيسى ومحمد بن الطيب ومحمد الكحلاوي وغيرهم ولذلك فمن يتحدث اليوم عن استغلاق هذه المدونة هو بالتأكيد جاهل بالموضوع. دورالشيوعية والاقليات في المشرق العربي * في مقالك عن الشيوعية في المشرق العربي يبدو أنك وقعت في تناقض "صارخ" إذ من ناحية حشدت جملة من الشواهد لمفكرين كبارا يعتبرون فيها الشيوعية ديانة جديدة ثم فجأة تنسب الأمر لنفسك؟ - هذا غير ممكن وغير صحيح على الإطلاق؟؟؟ * من بين ما كتبته ص 196 "ولكن لا أحد ، في حدود علمنا، تناول الموضوع من الزاوية التي تناولناه منها أي اعتبار الشيوعية ديانة جديدة...." - وهل تعرف ما هو الموضوع المشار إليه في هذه الجملة؟ لقد خصصت مقالي لموضوع محدد . هذا الموضوع هو التالي: لماذا ارتبطت الشيوعية في المشرق العربي في مرحلة التأسيس بالأقليات؟ وقد بنيت المقال على استعراض التفسيرات التي قيلت في هذا الموضوع ثم بيان ما لها وما عليها وانتهيت إلى رؤيتي الخاصة للموضوع وخلاصة هذه الرؤية أن الأقليات في المشرق العربي ارتبطت بالشيوعية لأنها كانت ترى فيها ديانة جديدة حملت لواءها إمبراطورية جديدة قامتا (الديانة والإمبراطورية) على أنقاض ديانتين وإمبراطوريتين منهارتين (الإمبراطورية العثمانية (الإسلام) والإمبراطورية النمساوية المجرية (المسيحية) وبالتالي فإن الحملة التي ذكرتها تعني أنني أول من تناول علاقة الشيوعية بالأقليات من هذه الزاوية أي أول من اتخذ من كون الشيوعية ديانة أداة لتحليل هذه العلاقة فأنا لا أبحث في الشيوعية وإنما في أسباب تعلق الأقليات بها في مرحلة تاريخية معينة. إذا فما نسبته لنفسي هو تفسير العلاقة بين الشيوعية والأقليات استنادا إلى البعد الديني في الشيوعية ولم أدع أنني صاحب هذا "الاكتشاف" * ولكن الشيوعية ليست دينا؟ - لا أحد قال بذلك وإنما اعتبرت "ديانة علمانية" من حيث قدرتها الهائلة على التأثير في الناس. ومن ناحيتي تحدثت عن تشابه بنيوي بين الدين والماركسية ولكن ليست ماركسية ماركس وإنما الماركسية التي انتشرت خارج أوروبا وهي ماركسية البيان الشيوعي وخطب لينين ومن المعلوم أن هذه الماركسية هي ماركسية إيديولوجية لا علاقة لها متينة بالماركسية العلمية. ويمكن في هذا الصدد مراجعة ما كتبه عبد الله العروي في الموضوع ( العرب والفكر التاريخي). انهيار المسيحية والاسلام * تحدثت عن انهيار المسيحية والإسلام ألا ترى أن ذلك مخالف للواقع؟ - لم أتحدث عن الانهيار في المطلق وإنما ربطته بزاوية نظر وبمرحلة تاريخية فمن المعلوم أن النصف الأول من القرن العشرين قد شهد حروبا وإبادات جماعية على خلفيات دينية وعنصرية وعرقية مما شكل ضربة قوية للدينين الكبيرين (الإسلام والمسيحية) فتعاليمهما لم تمنعا ذلك وبدا أنهما عاجزين عن تقديم شيء للإنسانية وخاصة للأقليات - موضوع المقال - في هذا الظرف ظهرت الشيوعية مقترنة بإمبراطورية جديدة هي الاتحاد السوفياتي. فتعلقت بها الأقليات هربا من جحيم " الدولة القومية وإيديولوجيتها التصفوية". الاقليات في عهد العثمانيين * ذكرت في مقالك أن الأقليات كانت تعيش أوضاعا مريحة في ظل الإمبراطورية العثمانية وهذا أيضا مخالف للتاريخ؟ - هذا غير صحيح فالتاريخ والإحصائيات التي أثبتها في المقال تبين بكل وضوح أن الأقليات في أوروبا الشرقية (تحت حكم العثمانيين) كانت تعيش "وضعا متميزا في عمومه بالوئام والتمازج بين الأعراق والديانات والمذاهب" ولم تعرف هذه الأقليات الاضطهاد " الحقيقي" إلا مع بروز الدولة القومية ( ولنذكر يوغسلافيا بين الأمس واليوم). وتاريخ الإسلام يشهد للوضع المتميز في عمومه للأقليات الدينية والعرقية ودعك من " أحكام أهل الذمة " فقد كانت حبرا على ورق على مدى فترات طويلة جدا من تاريخ الإسلام. والتاريخ الحديث والمعاصر يشهد أن الاستعمار هو الذي خلق مشكلة الأقليات (راجع تحاليلHanna Arendt وجورج قرم وكذا أمين معلوف). كلمة الختام لقد اجتهدت في تقديم رؤية خاصة بي حول قضايا شائكة مثل الجهاد والأقليات وحوار الأديان في إطار ما سميته بظاهرتي "أدلجة المقدس وتقديس الإيديولوجيا" ومازلت أنتظر تقييما جادا وموضوعيا لهذا الجهد بعيدا عن "العمى الإيديولوجي والقراءات المتسرعة.. واعتقد ان القراءة العقلانية للتراث وللمعطيات التاريخية والمستجدات السياسية ينبغي ان تسبق الحسابات الضيقة..والقراءات الاحادية المنطلقات..