الإشتراكي المتحمّس الذي انتدبه نيكولا ساركوزي لقيادة الديبلوماسية الفرنسية لا يكاد يتحكّم في جمله كلّما أبدى رأيا تجاه الملفات الحارقة في الشرق الأوسط الغارق في هواجس حروب الحاضر والمستقبل. هاجم بشدّة حكومة نوري المالكي وطالب بإقالة رئيسها ثم اضطرّ للاعتذار وسحب تصريحاته بعد موجة الغضب التي عبّر عنها فريق الحكم في العراق تجاه ما اعتبره تدخلا سافرا في الشؤون الوطنية العراقية (وهذا طبعا جزء من المفاوضات السوداوية)، ثم مرّ منذ أيام إلى الملف الإيران يليحمّل نفسه مسؤولية التلويح الصريح بخيار الحرب على إيران بصياغة لم تقدم عليها الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها ليعود من جديد للاعتذار عن تصريحاته جارّا معه هذه المرّة الرئيس ساركوزي ليبيّنا معا للعالم وللإيرانيين أن فرنسا لا تضع على أجندة سياستها الاتجاه للحرب على إيران وأنها إذ تنظر بعيون الريبة للمشروع النووي فإنها تتمسّك بخيار التفاوض والاقناع السلمي. الوزير برنارك كوشنار - الأكثر أمريكية بين الاشتراكيين - شخصية حيوية ونشيطة تهوى الحركة والاستعراض على الميدان ورث عن الحقبة «الشيراكية» ديبلوماسية فرنسية هادئة إلى حدّ التوجّس والانكفاء ذهبت بهاجس الاستقلالية عن التأثير الأمريكي الى حدود الانسحاب من مسرح العمليات بما فيها أحيانا مناطق نفوذها التقليدي، أثقل تركة في هذا الميراث هي حزمة التوترات التي راكمتها مواقف فرنسا الشيراكية تجاه حليفها الأمريكي وهي توترات عايشها الجميع في ذروتها سنة 2003 حين قادت فرنسا بإصرار وعناد تيار الممانعة والرفض الدوليين للحرب ضدّ العراق لكن هذا الاتجاه بالذات هو الذي منح فرنسا علاوة على تقدير واعجاب كل القوى المحبّة للسلام نوعا من الهدوء والمناعة ضدّ أخطر الأمراض السياسية للعصر: الإرهاب. كوشنار المتحمّس تماما كالرئيس ساركوزي لطي هذه الصفحة لتحمّسه لفائدة علاقات أمتن وأقوى مع الولاياتالمتحدةالأمريكية دخل طريق التغيير الديبلوماسي بحماس واندفاع ولكن بكمّ من الأخطاء الناتجة عادة عن حماس متعجّل تعوزه الروية ينقلب عادة على أصحابه. لا أعتقد أن نجدة ادارة أمريكية غارقة في العراق ومشوشة تجاه الملف الإيراني تستعد لمغادرة البيت الأبيض بعد سنة واحدة يكون من قبيل الحكمة أو الرؤية الصائبة، فمن حق فرنسا أن تسعى لاستعادة دورها الحيوي دوليا عبر أهم البوّابات الساخنة (لبنان، دارفور، العراق، إيران، افريقيا...) لكن عليها أن تفكّر جيدّا في الصياغة والأسلوب إذ لا التصريح الحاد ثم التراجع عنه في أكثر من مناسبة يستطيع أن يخدم هيبة الديبلوماسية الفرنسية ولا الاصطفاف الكلي وراء ما تبقى من الأجندة السياسية المتخبّطة للرئيس بوش يشي بأيّ نوع من أنواع الحكمة. أخطر الأبواب التي طرقها اندفاع الوزير كوشنار هوالباب الإيراني في غفلة مخلة عن استحضار عبرة الماضي حين احتكّت المصالح الإيرانية الفرنسية في ثمانينات القرن الماضي إبّان الحرب العراقية -الايرانية وبين خرائب بيروت الخارجة لتوّها من غزو آلة الدمار الإسرائيلي، كان الاحتكاك حينها أقوى من أن يحتمله الفرنسيون الأبرياء في شوارع باريس أو رعايا فرنسا المختطفين في الشرق الأوسط. وديعة جاك شيراك الديبلوماسية لم تكن سطحية ومن غير الحكمة تبديد احدى أهم أرصدتها: استقرار فرنسا وأمنها.