أعلن وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنار اثر زيارته المفاجئة للعراق مؤخرا ووفق ما نقلته الصحف ووكالات الانباء انه لم يكن يتصور ان تستعمل الولاياتالمتحدة «مفهوم التدخل الانساني بهذه الطريقة». كان ذلك اثر معاينته المباشرة للوضع على عين المكان ووقوفه على هول الكارثة التي حلّت بالعراقيين نتيجة للغزو الامريكي لبلادهم المتواصل منذ اربع سنوات.. ولعل الكثيرين مازالوا يذكرون ان السيد برنار كوشنار اليساري الذي تمكنت حكومة اليمين من استقطابه ببادرة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، لعلهم مازالوا يذكرون ان وزير الخارجية الفرنسي كان من بين القلائل في بلاده الذين لم يعارضوا مبدأ التدخل الامريكي في العراق.. فهو من بين المؤيدين لمفهوم التدخل الانساني وهو المعروف بنشاطاته الانسانية. يكفي ان نذكر ان برنار كوشنار من بين مؤسسي حركة أطباء بلا حدود في العالم ومن المناضلين في صفوفها.. ان الاستغراب الذي اظهره وزير الخارجية الفرنسي ازاء ما يحدث في العراق من دمار وهو الذي لم يعارض الحرب على هذا البلد. جعله يطالب ودائما وفق التصريحات التي نقلتها عنه الصحافة الفرنسية، يطالب ب«طي الصفحة» والبحث عن حل للأزمة في العراق.. الحل حسب رأيه طبعا لا يمكن الا ان يكون سياسيا. طي الصفحة؟ ان المطالبة بطي الصفحة من منظورنا امر لا يخلو من الغرابة ومن الخطورة ايضا.. وهو يفتح الباب امام عدة تساؤلات لعل اهمها اولا مدى نجاعة مفهوم التدخل الانساني وثانيا مدى جدية فرنسا في لعب دور اساسي في حل الازمة في العراق. وقد يكون من المفيد الوقوف عند مسألة طي الصفحة وما تثيره من حيرة لدينا.. فربما لم يسبق للعراقيين ان عرفوا كارثة في حجم وهول الكارثة التي يعيشونها منذ اربعة اعوام.. فقد تم تخريب البلاد وهي مهددة جديا بالانقسام الى دويلات وانعدام الامن وجحافل الموت يوميا والعراقيون يتحولون الى لاجئين بالملايين.. دون ان ننسى الافتقار الى ادنى اسباب الحياة خاصة من غذاء وكهرباء وادوية الخ.. بعد كل هذا، نطوي الصفحة وكأن شيئا لم يكن؟!.. هل يمكن ببساطة طي الصفحة دون محاسبة الاطراف التي تسببت في هذه الكارثة.. والتي لا يمكن التكهن بنتائجها على مدى طويل.. هل يمكن في ظل هذه الكارثة ان يظل مفهوم التدخل الانساني العزيز على السيد كوشنار محتفظا برونقه؟ ان مدى نجاعة مفهوم التدخل الانساني على مستوى دولي، كان ومنذ اطلاق هذا المفهوم الفلسفي الاخلاقي قبل ان تكون له قاعدة قانونية، محل تساؤل.. مؤيدو الفكرة يعتبرون هذا الحق في التدخل في شؤون الدول في صورة وجود خطر محدق بالشعوب او باقلية دينية وعرقية كفيل بردع الحكام ومختلف الهيئات والهياكل التي تشكل تهديدا لها وبالتالي فان هذا التدخل يكتسي بعدا انسانيا.. في حين يرى معارضو الفكرة ان التدخل الانساني ما هو الا تعلة لعودة الاستعمار من باب اخر.. لانه حتى وان كان هذا التدخل يتم عادة في نطاق الاممالمتحدة فانه يكون استجابة لطلب دولة او مجموعة من الدول المؤثرة في العالم على حساب الدول المتخلفة والعالم الثالث. هول المأساة لا بد اذن ان السيد كوشنار وهو يقف عند هول المأساة قد خامرته عدة تساؤلات الامر الذي جعله يعلن استغرابه اولا من كيفية استعمال الولاياتالمتحدة لمفهوم التدخل الانساني بهذا الشكل رغم ان الولاياتالمتحدة لم تتدخل في العراق بدافع انساني.. فالكل يعلم ان الحرب اطلقت في اطار ما يعرف بالحرب على الارهاب وبعد ما جمعته الولاياتالمتحدة من حجج تبين في النهاية انها واهية.. حول امتلاك النظام العراقي الذي كان يقوده الرئيس الراحل صدام حسين من اسلحة للدمار الشامل.. وثانيا يطالب بطي الصفحة بسرعة وكأن الامور بهذه البساطة.. اذ يكفي ووفق ما فهمنا من تصريحاته ان يقر باخطاء الامريكيين في مغامرتهم بالعراق حتى يكون موضوعيا في رأيه.. لنلاحظ ان برنار كوشنار لم يعلن في مختلف تصريحاته خلال زيارته للعراق بان الامريكيين قد اخطأوا في اعلانهم الحرب على العراق.. بل اكتفى بتقييم المغامرة وذكر الأخطاء التي ارتكبت خلالها.. وهو يكون بذلك في انسجام تام مع الموقف الرسمي الجديد من مغامرة الادارة الامريكية بالعراق.. نيكولا ساركوزي لم يخف رغبته حتى قبل انتخابه رئيسا جديدا لفرنسا في ان يكون حليفا ومواليا للادارة الامريكية ليكون بذلك في قطيعة تامة مع الموقف الفرنسي القديم حيث كان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك من ابرز المعارضين للحرب الامريكية على العراق مما دفع بالولاياتالمتحدة الى خوض حرب بدون موافقة الاممالمتحدة. نوايا اخرى ولئن حرص الوزير الفرنسي كوشنار على التأكيد من جهة على ان زيارته للعراق تمت ببادرة خاصة منه وهو المعروف بمواقفه المؤيدة للأكراد بالخصوص ليرد بذلك على الآراء التي جعلت من الزيارة تنفيذا لرغبة الرئيس ساركوزي وعلى ان الهدف من الزيارة اعلان المساندة للشعب العراقي بمختلف فصائله في هذه المحنة من جهة ثانية، ولئن حرص على ذلك فانه لا يمكن الفصل بين هذه الزيارة والنية الواضحة للرئيس الفرنسي ساركوزي في بناء علاقات جديدة مع الادارة الامريكية.. وهو بالتالي لن يجد فرصة افضل للتأكيد على سلامة نواياه تجاه هذه الادارة من مد يد المساعدة لها في مغامرتها بالعراق، مغامرة تؤكد كل المؤشرات انها ستكون وخيمة العواقب لو لم يتم الوصول الى حل يحفظ ماء الوجه للدولة العظمى الاولى في العالم.. بقي علينا ان نعرف ما هو الدور الذي تنوي فرنسا القيام به في العراق.. هل ستكتفي بدور شبيه بدور بريطانيا العظمى، دور انتهى باقالة طوني بلار من منصبه كرئيس للوزراء ببلاده، أم ستفرض شروطها على الولاياتالمتحدة.. حسابات واطماع حاليا يحاول الرئيس ساركوزي توظيف خبرة وزيره للخارجية وسمعته ومواقفه الانسانية من جهة والصداقة التي هو بصدد ارسائها مع الادارة الامريكية الحالية من جهة ثانية كي تسمح له الولاياتالمتحدة بلعب دور ما في العراق دون ان ننسى ما يمكن ان تجنيه فرنسا من اقامة علاقات متينة مع السلط العراقية الحالية اضافة الى ما يمكن ان تجنيه القيادة الفرنسية من اعتراف دولي في صورة الوصول للحل. ولعلنا لسنا في حاجة للتذكير اليوم بان الوضع الحالي في العراق يجعل الباب مفتوحا لكل الاطماع ولكل الحسابات الضيقة ولكل المناورات في ظل غياب دور عربي مثير للحيرة والاستغراب لحل الأزمة. وتجدر الاشارة الى ان جماعة اليسار التي ينحدر منها برنار كوشنار قبل ان ينضم الى الحكومة اليمينية لم ترحب بزيارة وزير الشؤون الخارجية الفرنسي للعراق ولم تر فيها سوى برهان اخر يريد ان يقدمه الرئيس ساركوزي للامريكيين يؤكد به رغبته الجدية في التقرب من القيادة الامريكية مع العلم ان اليسار الفرنسي عامة مازال متمسكا باستقلال القرار الفرنسي عن البيت الابيض الامريكي.. فيما يتعلق بالعلاقات الدولية والشؤون الخارجية وخاصة الموقف الفرنسي المعارض بشدة للحرب على العراق والتدخل في شؤون هذا البلد.