يبدو أنّ الكريملين عازم على استعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية بعد حوالي عشريتين من انفراط عقد الاتحاد السوفياتي وما نتج عن ذلك من تصدّع لثاني أكبر وأقوى دولة في العالم. ففي مواقف متعاقبة ذات دلالات أكد الرئيس الروسي بوتين رفضه تركيز صواريخ بالستية أمريكية على الحدود الشرقية لأوروبا مهدّدا الولاياتالمتحدةالأمريكية بإعادة النظر في الاتفاقات الاستراتيجية بين الدولتين في ما يتعلق بالحدّ من التسلح تلا ذلك موقفه الواضع من الأحداث الدّامية التي عاشتها مينمار (بورما) بعد المواجهات بين قادة الحكم العسكري والشعب معتبرا ذلك مسائل داخلية في تعارض حادّ مع موقف الدول الغربية التي طالبت بإعادة الديموقراطية إلى هذا البلد الآسيوي الذي يقبع في المراتب الأخيرة دوليا على مستوى التخلف والفقر والحكم الاستبدادي. وتجدّد هذا الموقف الروسي الرافض للسياسة الغربية بحضور بوتين قمّة قادة الدول المطلة على بحر قزوين التي احتضنتها مؤخرا العاصمة الإيرانية وفي ذلك رسالة ضمنية للغرب حول المساندة الروسية لإيران في ما يخصّ مستجدّات ملفها النووي ورفض استعمال القوّة ضدّها بعد أن لوّح الغرب خصوصا الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا بإعلان حرب ضد طهران لتدمير منشآتها النووية و«تأديب» القادة الإيرانيين على موقفهم العلني ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وضد وجود الدولة الإسرائيلية ذاتها. وتتوالى مواقف القيادة الروسية في تباين واضح مع السياسة الغربية بمطالبة بوتين إدارة بوش ضبط موعد زمني محدد للانسحاب من العراق، علاوة على معارضتها للتهديدات الموجهة إلى سوريا وللمعارضة اللبنانية ومغازلتها لتركيا بعد التوتر السائد على حدودها مع العراق والتصدّع في العلاقات التركية - الأمريكية إثر اعتبار إحدى لجان الكونغرس مذابح الأرمن منذ قرن حرب إبادة تركية. لقد انهارت مرحلة الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي منذ ثلاثة عقود بعد تسابق في التسلح وفي استقطاب دول وقيادات تدور في فلك هذا المعسكر أو ذاك منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. وانكفأت روسيا على ذاتها منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي لتلملم أوضاعها بعد موجة الاستقلال التي اكتسحت دول الاتحاد السوفياتي سابقا مما فسح المجال للولايات المتحدةالأمريكية كأعظم قوّة في العالم لإدارة شؤون السياسة الدولية حسب مصالحها وأهوائها وفجّرت تبعا لذلك أكثر من بؤرة نزاع وتوتر في آسيا الوسطى وفي القرن الإفريقي والخليج العربي ودول البلقان بدون رادع. واليوم وبعد «غياب» طويل نسبيا يعود الكريملين إلى الساحة الدولية بشكل يوحي بأن فترة السّبات قد انتهت خصوصا بعد أن استفاقت قيادته على الرؤوس النووية الأمريكية وهي تطل على حدود روسياالغربية وبعد أن فقدت مواقع استراتيجية لها في مياه الخليج الدافئة.