من العاصمة اللبنانية بيروت وفي خضم أزمة الجيش اللبناني في مواجهة «حركة فتح الاسلام» في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين اختار بيرنار كوشنير أن يبدأ أول نشاط خارجي له بعد أقل من اسبوع على توليه منصبه الجديد على رأس الديبلوماسية الفرنسية مشددا على ضرورة انشاء المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري في رسالة مزدوجة على أن السياسة الخارجية الفرنسية لن تتخلى نهائيا عن ارث الرئيس السابق شيراك في علاقاتها بقضايا الشرق الاوسط دون أن تكون في نفس الوقت مضطرة إلى توخي سياسة المواجهة مع الإدارة الأمريكية كما كان الحال قبل أربع سنوات عندما أعلنت فرنسا موقفها الرافض للحرب وتجد نفسها بعيدة عن دائرة اقتسام «الكعكة العراقية» والمشاريع الاستثماراية والنفطية الكثيرة. لقد أثار تعيين كوشنير وزيرا للخارجية الفرنسية ردود فعل متضاربة على الساحة الفرنسية كما على الساحة الدولية فهي المرة الأولى التي يتولى فيها مثل هذا المنصب من خارج دائرة الرئيس الامر الذي أثار الكثير من القراءات والتوقعات بشأن فرص ومجالات استمرار الحلف بين الرجلين، على أن تعيين كوشنير في منصب أثار بالدرجة الأولى ارتياحا اسرائيليا حرص الاسرائيليون على اظهاره وقد كتبت صحيفة جوريزلوم بوست في تعليقها على ذلك بأنه من حسن حظ اسرائيل التي يتعين عليها أن تشكر الرب أن تم تعيين كوشنير ولم يتم تعيين فيدرين.. أما صحيفة لو كانار أونشيني فقد رجحت دور اللوبي اليهودي في تحديد هذا الخيار ولا شك أن أسبابا كثيرة من شأنها أن تفسر هذا الموقف الاسرائيلي فقد كان لكوشنير زيارات كثيرة إلى اسرائيل وقد منح خلال احدى تلك الزيارات جائزة شرفية من جامعة بن غوريون وذلك في خضم الانتفاضة الثانية.. وقد أثار اختيار الطبيب برنار كوشنير على رأس وزارة الخارجية في حكومة فيون ليثير الكثير من نقاط الاستفهام التي قد لا يتأخر الرد عليها طويلا ولا شك أن قبول كوشنير لهذا المنصب ما يعكس طموحات كوشنير الذي تقبل قرار طرده من الحزب الاشتراكي بعد هذا التعيين بطريقة براغماتية كانت ولا تزال اسلوبه في التعامل مع الحياة السياسية حسب الذين عرفوه. فقد اعتبر كوشنير أن انتقاداته الكثيرة التي وجهها إلى ساركوزي خلال الحملة الانتخابية ووقوفه إلى جانب منافسته روايال في سباق الانتخابات الرئاسية لا يمكن أن يشكل عائقا أمامه في تولي مثل هذا المنصب الذي انتظره طويلا والارجح أن كوشنير لم يتحرج من قبول هذا المنصب بعد ان تبخرت احلامه في الفوز بمقعد مدير منظمة الصحة العالمية وتراجع فرص منحه منصب مدير الهيئة العليا لإغاثة اللاجئين. ولعل أبرز ما ارتبط بهذا التعيين أن مواقف كوشنير كانت متعارضة دوما مع مواقف ساركوزي وهو ما جعل عديد الملاحظين يتوقعون أن يكون التعايش بينهما أمرا صعبا وليس من دون تعقيدات وإذا كان ساركوزي من معارضي التدخل الأمريكي في العراق فإن كوشنير كان أحد الفرنسيين القلائل الذين ايدوا هذا التدخل الذي ربطه بأسباب إنسانية وإذا كان ساركوزي صريحا في موقفه الرافض لانضمام تركيا إلى العائلة الاوروبية فإن كوشنير له رأي آخر فهو يعتبر تركيا جزءا من أوروبا وتسحق العضوية الاوروبية وربما تكشف المفاوضات المرتقبة داخل الاتحاد الاوروبي بشأن تركيا المزيد من هذا التضارب في المواقف الذي لا يقف عند هذا الحد بل ويمتد إلى مسألة الهجرة التي تعد من المسائل الحساسة والمعقدة في فرنسا حيث يقف ساركوزي مناصرا للهجرة الانتقائية فإن كوشنير لم يخف امتعاضه من فكرة تشكيل وزارة خاصة بالهجرة القائمة والهوية الوطنية وعلى استقدام الافضل. وحسب الملاحظين فإن مواقف الرجلين وأفكارهما تتقارب فيما يتعلق بالعلاقات المستقبلية الامريكية الفرنسية وبالقضايا العربية والأزمة في الشرق الاوسط إلى جانب أزمة دارفور والملف النووي الايراني والقضايا الانسانية في افريقيا. وقد شدد ساركوزي في أول خطاب له بعد تنصيبه رئيسا لفرنسا على أن أولويات سياسته الخارجية ستتجه إلى دعم حقوق الانسان ومخاطر البيئة وهو أيضا ما يمكن عده من الأفكار المشتركة للرجلين.. ورغم أن كوشنير يتمتع بشعبية واسعة في فرنسا فإن ذلك لا يعود إلى مسيرة ديبلوماسية فحسب ولكن إلى مسيرته في العمل الانساني من البوسنة إلى لبنان وكطبيب ومؤسس لمنظمة اطباء بلا حدود التي سبق لها الفوز بجائزة نوبل للسلام وكذلك إلى دوره كممثل للامم المتحدة في كوسوفو وهو لا يصف نفسه بالديبلوماسي ولا يتردد في كشف تأييده طريقة القتل الرحيم عندما يلزم الأمر لكن صديقه الامريكي ريتشارد هولبروك السفير الامريكي السابق في الأممالمتحدة يعتبر أن تعيين كوشنير في هذا المنصب سيكون ايجابيا في العلاقات الامريكية الفرنسية لأنه بكل بساطة لا يأتي بمواقف غاضبة أو معارضة للولايات المتحدة. ولكن ما يجمع كوشنير وساركوزي جذور يهودية مشتركة وكلاهما من أصول مهاجرة جاءت إلى فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية فساركوزي مجري هرب والده إلى فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية وهو من أم يهودية أما كوشنير وإن كان أكبر سنا من ساركوزي فهو يهودي روسي وهو يعتبر أن نهاية والديه في المحارق التي استهدفت اليهود كانت عنصرا حاسما في دفعه إلى العمل الانساني. ومن الانباء المتداولة أيضا أن كوشنير قريب جدا من بيار للوش مستشار ساركوزي للشؤون الدولية خلال الحملة الانتخابية والذي كان يأمل في الدخول إلى الحكومة الفرنسية الجديدة قبل أن تنسف آماله في تحقيق هذا الهدف بعد الكشف عن وزرائها الخمسة عشر وبعد أن اختار ساركوزي جون دافيد لوفيت الديبلوماسي المحنك ومستشار شيراك سابقا وسفير فرنسا في واشنطن كمستشار ديبلوماسي ليتولى قيادة فريق ديبلوماسي على شكل مجلس الامن القومي الامريكي بما يؤكد خيارات ساركوزي نحو مزيد التقارب مع الولاياتالمتحدة. إلا أن الاعتقاد السائد أن كوشنير له علاقات مميزة مع الإعلاميين وقد كان لارتباطه طويلا بالصحافية الشهيرة كريستين أوكرانت دوره في دعم علاقاته مع الإعلاميين لا سيما أن كوشنير ظهر على السطح خلال الاحداث الطلابية في الستينات ولا شك أن معركة الانتخابات التشريعية المرتقبة الشهر القادم سيكون لها الدور الاكبر في مزيد توضيح توجهات السياسة الخارجية الفرنسية خلال السنوات الخمس المقبلة ومزايا أو اعباء التجانس الذي حرص ساركوزي على اعتماده في تشكيل حكومته المتألفة بين اليمين واليسار والوسط كمحاولة لكسب تأييد الفرنسيين والظهور بمظهر الاقدر على جمع صفوف الفرنسيين بمختلف ألوانهم واطيافهم عسى أن يكون ذلك كفيلا بجعل الاوساط الإعلامية الفرنسية تتناسى حقيقة ابن المهاجر الذي نجح في اقتلاع مقعد الاليزيه ومنح الكي دورساي إلى مهاجر آخر.