منذ تحرير المبادلات التجارية بين الدول والانفتاح الدولي على الاقتصاد المعولم أصبح التنافس الاقتصادي أكثر شراسة من ذي قبل وأخذ مفهوم القدرة التنافسية مكانة جديدة سواء لدى المؤسسات أو على مستوى السياسات الوطنية كهاجس أساسي للحفاظ على النسيج الاقتصادي وعلى مواطن الشغل. ولهذا أصبحت القدرة التنافسية مرادفا للبقاء والاستمرار في هذا المحيط الشرس والصعب وصارت معركة تحسين الجودة وتقليص الكلفة معركة كل الاقتصاديات. ولمجابهة هذا المعطى الجديد كان لزاما على المؤسسات أن ترقى بطرق إنتاجها وترفع من إنتاجيتها وتحسن من جودة سلعها وخدماتها معتمدة في ذلك على تأهيل كافة عناصر الإنتاج وخصوصا الرفع من مهارات العاملين بها وتحسين تأطيرهم وتأهيل مواردها البشرية التي تشكل احد مقومات دعم القدرة التنافسية للمؤسسة وللاقتصاد عموما. إن أنظمة الإنتاج الكلاسيكية التي كانت تعتمد عنصري راس المال والعمل دون سواهما تغيرت بشكل واضح منذ تطور مناهج التصرف والتسيير، واعتماد الطرق العلمية في تنظيم عملية الإنتاج بكافة مراحلها ومكوناتها، وتطور نتائج البحث العلمي، واستعمال التكنولوجيات الحديثة في مجالات المعلوماتية والاتصالات والالكترونيك والمكننة الحديثة. وإذا كانت هذه الوسائل الجديدة للإنتاج تؤمن أسباب تحسين الجودة وتدعيم التواجد بالأسواق، فإنها تحتم أيضا وجود كفاءات ومهارات عالية التكوين والتدريب ومتشبعة بالمستجدات العلمية في مجال تخصصها. كما تميزت عمليات الإنتاج أيضا بإقحام اعتبارات جديدة حتمتها سياسات التنمية البشرية والمواثيق الدولية والتشاريع الوطنية كأهداف حماية البيئة والمحيط واحترام المواصفات الصحية والاقتصاد في الطاقة وتحقيق الرقي والسلم الاجتماعيين. فظهرت اختصاصات جديدة في مواقع العمل مثل التصرف البيئي والطاقي وأرغونوميا العمل ومواصفات الصحة والسلامة ومقاومة التلوث. ووعيا منها بأهمية الموارد البشرية وبانخراطها في المنظومة الاقتصادية الدولية عملت تونس على إدماج مكونات اقتصاد المعرفة في مقاربتها التنموية ، وأخذ الاقتصاد اللامادي بعدا كبيرا في برامج تأهيل الاقتصاد والمؤسسات. وبالنظر لحصاد عشرين سنة من التغيير، فان حجم الإصلاحات وعمق التوجهات وتعدد البرامج والمشاريع قد ساهم في إحداث بنية أساسية للموارد البشرية قد تدعمت بها مقومات التنمية الشاملة وساهمت بدور كبير في تحسين وتطوير مناخ الاقتصاد والأعمال. فلقد اعتمدت مقاربة التحول على النهوض بالموارد البشرية كأداة رئيسية لتحقيق أهداف التنمية، فتم تدعيم التعليم العالي وفتحت مجالاته أكثر أمام الشباب لاكتساب كفاءات تمكن من دخول سوق الشغل بأوفر حظوظ التشغيلية، وتوسع إحداث المؤسسات الجامعية على مدى جغرافي يضمن التوازن الجهوي وجعل كل ولاية تحظى باحتضان مؤسسة جامعية، وتعممت معاهد الدراسات التكنولوجية في إطار تكوين تطبيقي يتلاءم وحاجيات الاقتصاد الجديد. كما تم تدعيم عدد المراكز العمومية للتكوين المهني وتغطيتها لمجمل الجهات والقطاعات من جهة وتحرير الاستثمار في القطاع الخاص للتكوين المهني من جهة أخرى. ونظرا لاندراج إصلاح أنظمة التعليم العالي والتكوين المهني بهدف الرفع من التشغيلية وتحسين نسبة التأطير للاقتصاد والمؤسسة، فإنّ الأساس الّذي تمّ اعتماده هو الملاءمة بين جهاز التكوين وبين حاجيات المؤسسات الاقتصادية في إطار من الشراكة يقضي بالبناء المشترك للبرامج التعليمية وتشجيع نظام التداول في التكوين بين المؤسسة الجامعية أو التكوينية وبين المؤسسة الاقتصادية. وكان من نتائج هذه الإصلاحات وإقرار هذه الشراكة بين عالم المؤسسة والجامعة التونسية هو تعدّد الانتدابات من بين خرّيجي التعليم العالي وخاصة الإطارات الفنية والتقنية ممّا رفّع في نسبة التأطير الوطنية إلى حدود 13,8% بعدما كانت لا تتجاوز 6% سنة 1987، ومكّن المؤسسات من خبرات تحذق توظيف الإعلامية والأنترنات والتجارة الالكترونية وتكنولوجيات الاتصال واللغات لدعم الإنتاج وحسن التسويق وتنظيم مسالك التوزيع. وإذا كانت عديد المؤسسات قد انخرطت بعد في هذا النهج اللاّمادي للاقتصاد فإنّ هذا الخيار أصبح من الضروري تعميمه على باقي المؤسسات والقطاعات التقليدية حتّى تتحسّن نسب التأطير ونبلغ الهدف الوارد بالبرنامج الرئاسي برفعها إلى 17% في حدود سنة 2009. وبذلك تكون المؤسسات قد وفقت في إصابة هدفين اثنين، أوّلهما اقتصادي بدعم التنافسية والقيمة المضافة للمنتوج وضمان مكان بالسوق الداخلية والخارجية، وثانيهما اجتماعي بفتح آفاق التشغيل أمام فئة شابة تكوّنت تكوينا عاليا وتبحث عن فرص للتألّق وإثبات الجدارة والكفاءة. ولقد حرصت منظمة الأعراف على تعميق هذه القناعات لدى أصحاب المؤسسات وتحسيسهم بمزيد العمل على تحسين نسب التأطير بمؤسساتهم بما يدفع بالمنتوج إلى مرتبة تنافسية أعلى لا فحسب في السوق الدولية وإنّما أيضا في السوق الداخلية. وما كان لهذا المجهود التحسيسي أن ينجح لولا انتهاج تونس لسياسة نشيطة لسوق الشغل ولاحتلال مكانة التشغيل الأولوية المطلقة لدى أعلى هرم السلطة. فمنذ السنة الأولى للتحوّل تمّ سن قانون أوت 1987 المتعلق بإحداث نظام تربّصات الإعداد للحياة المهنية لحاملي شهادات التعليم العالي وتلته الآليات التشجيعية الأخرى في مجال المساعدة على الإدماج بسوق الشغل مثل تكفل الدولة بنسبة من الأجور وبمساهمات الأعراف في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وإحداث الصندوق الوطني للتشغيل 21/21. إن نسبة تأطير الاقتصاد تهمّ كافة المؤسسات العاملة في شتى القطاعات رغم تفاوت إمكانيات التقنية والتكنولوجية من مؤسسة إلى أخرى ومن فرع نشاط إلى آخر ومن تنظيم إلى آخر، لهذا فقد كانت الحاجة متأكدة لبعث جيل جديد من المؤسسات في قطاعات الخدمات المالية والمحاسبية والهندسية والاستشارات والصيانة وعديد الخدمات الأخرى، تقوم بمساعدة مؤسسات القطاع الصناعي والسياحي والخدمي في شكل عقود تجارية من الباطن أو في شكل تبني لهذه الوحدات الصغيرة. وقد كانت الإجراءات والقرارات الرئاسية هامة ومتعددة لفائدة الشباب حاملي الشهادات من أجل تشجيعه على بعث مؤسسة على العمل المستقل وتنمية روح المبادرة. وإذ يحقّ لنا اليوم الفخر بما تمّ تحقيقه في مجال الموارد البشرية وتحسين نسبة تأطير الاقتصاد ودعم قدرته التنافسية بفضل صواب التوجهات ومجهودات كل الأطراف المعنية بعملية الإنتاج من إدارة ومؤسسات اقتصادية ومنظمات مهنية، فإنّ التحديات المستقبلية والضغوطات التي سيحدثها الإطار الاقتصادي الدولي تدفعنا لمزيد الجهد والعمل على تعزيز وتدعيم ما أنجزناه والتّوق دوما نحو درجات أرفع ومراتب أفضل. عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي مدير مركزي باتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية