بقلم: حامد النقعاوي إن تمكين المتقاضين من مساءلة السلطة القضائية هو الأساس الذي تنهض عليه استقلالية القضاء، وما دامت اجتهادات القضاء وكافة إجراءاته مترفعة عن كل محاسبة فإن القضاء لا يمكن أن يكون مستقلا حتى وإن أظهر من الإستقلالية الكثير، لأن الإستقلالية وبكل بساطة هي تحمل المسؤولية، وإن مساءلة القضاء لا بد أن تكون مناط نظر محكمة لا تختص بغير هذا الصنف من الدعاوى. لقد تقدم الغرب في هذا المجال مبتعدا على نحو باتت معه أحكامه القضائية عجيبة لا تستساغ عندنا، لما ترسخ في أذهاننا واستقر في ضمائرنا من أفكار جفت وتصلبت لعدم مراجعتها. بتاريخ 28/6/2002 أصدر مجلس الدولة الفرنسي حكما فريدا من نوعه نشر في A.J.D.A. juillet-Aout2002 p599، وذلك في طعن قدمه وزير العدل ضد السيدMagiera طالبا نقض قرار محكمة الاستئناف الإدارية الذي حكم لهذا الأخير بالتعويض عن الضرر الناشئ من انتظاره أكثر من سبع سنوات ونصف حتى فصلت المحكمة الإدارية في دعوى رفعها ضد أحد أشخاص القانون الخاص خلال شهر ماي سنة 1990. لقد استند مجلس الدولة في حكمه إلى الفصل السادس من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في فقرته الأولى التي تنص على أن "لكل شخص الحق في أن تسمع دعواه هيئة محكمة بصورة عادلة وعلنية خلال مهلة معقولة..." والفصل 13 من هذه الاتفاقية الذي اقتضى أن:" لكل شخص تنتهك حقوقه وحرياته التي تكفلها هذه الاتفاقية، الحق في مراجعة مجدية أمام محكمة وطنية، حتى ولو كان هذا الانتهاك قد حصل عبر هيئة أثناء ممارستها وظائفها الرسمية". إستنادا لهذين الفصلين فإن للمتقاضين الحق في أن يفصل القضاء أقضيتهم خلال مهلة معقولة. وحتى لو لم ينتج عن تجاهل هذا الموجب أي أثر على صحة هذا الحكم القضائي الذي صدر بصورة متأخرة بعد اختتام إجراءات المحاكمة، فإن للمتقاضين أيضاً الحق في طلب احترام المحكمة لهذا الموجب، وإذا نجم عن مخالفة حق إصدار الحكم في مهلة معقولة أضرار، فإنه يجب أن يحصل هؤلاء المتقاضين على التعويض عن الأضرار التي سببها السير الخاطئ للمرفق العام القضائي. وقد رآى المجلس أن تقدير الفترة المعقولة لإصدار الحكم يكون خاضعا لمعطيات تجعل هذه الفترة مختلفة بين مراجعة قضائية وأخرى، حيث تؤخذ في احتساب الفترة المعقولة استعمال الفرقاء الوسائل المعطلة للنظر، وتصرفاتهم خلال سير المحاكمة، أو مدى اشتمال المراجعة على نقاط قانونية تحتاج إلى دراسة خاصة. باعتماد هذه المعايير تكون محكمة الاستئناف قد أصابت لأن الفترة الفاصلة بين تقديم الدعوى وإصدار الحكم في هذه المراجعة، والتي بلغت سبع سنوات وستة أشهر من أجل حل نزاع لا توجد فيه أية صعوبة خاصة، هي فترة طويلة جدا. وهذا ما استوجب جبر الأضرار المادية والمعنوية، المباشرة والأكيدة، الناجمة عن مجرد تأخر القضاء في الاعتراف بحق المدعي. وقدرت محكمة استئناف باريس أن السيد Magiera تضرر لطول إجراءات المحاكمة مما ترتب عنه اضطراب في ممارسة حياته الطبيعية، فحكمت له بمبلغ 30.000 فرنك تعويضا عن هذا الضرر. أقر مجلس الدولة التعويض الذي فرضته المحكمة على وزارة العدل، معتبرا أنه خلافا لما تمسك به وزير العدل، فإن التأخر في الفصل خطأ معمر لذمة الدولة. لقد سعى مجلس الدولة في هذه القضية إلى إقناع المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أنه يوجد في القانون الفرنسي مراجعة فاعلة بالمعنى الذي أوجبه الفصل 13 من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وذلك في الحالة التي يتجاهل القاضي الإداري حق المتقاضي بأن تفصل المحكمة في دعواه خلال مهلة معقولة. كما أراد أن يثبت لمحكمة ستراسبورغ أنه يتقيد بالمبدأ الذي استخلصته هذه المحكمة من خلال عطف الفقرة الأولى من الفصل السادس على الفصل 13 من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وقد بدأت هذه المحكمة منذ فترة قصيرة بتطبيق مبدأ وجوب توفر المراجعة الفاعلة لكل متقاضٍ تضرر من تأخر محكمة وطنية في إصدار الحكم. وأول حكم صدر عن هذه المحكمة تطبيقا لهذا المبدأ كان في دعوى Kudla ضد الدولة البولونية بتاريخ 26/10/2000 حيث أصدرت حكما أقرت فيه أن المتقاضي يجب أن يملك القدرة على الاستفادة من مراجعة فاعلة أمام محكمة وطنية تسمح له بالشكوى من التأخر في إصدار الحكم. أما الدعوى الثانية التي فصلت فيها محكمة ستراسبورغ فهي دعوى Lutz ضد الدولة الفرنسية بتاريخ 26/3/2002 حيث أدانت المحكمة الدولة الفرنسية لمخالفتها أحكام الفقرة الأولى من الفصل 6 والفصل 13 من الاتفاقية الأوروبية. وقد رفضت محكمة ستراسبورغ لحقوق الإنسان تذرع الدولة الفرنسية بأن محاكمها تسير على خطى اجتهاد Darmont الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي بتاريخ 29/12/1978 الذي كان يشترط ارتكاب المحكمة خطأ جسيما لكي تنهض مسؤولية الدولة. واشتراط الخطأ الجسيم يجعل هذه المراجعة من الناحية العملية غير مجدية. وقد لاحظت المحكمة أيضاً أن محكمة الاستئناف الإدارية في باريس عندما أدانت الدولة عن التأخر في إصدار الحكم في دعوى Magiera فإنها بحثت أيضا عن الخطأ الجسيم الذي ارتكبته المحكمة الإدارية. وهو خلاف ما تنادي به محكمة ستراسبورغ التي لا تشترط خطاء جسيما وإنما مجرد التأخر عن إصدار الحكم ضمن المهلة المعقولة حتى بدون خطأ. وقد حاولت الهيئة العامة لمحكمة النقض الفرنسية مجاراة المحكمة الأوروبية في قضية أخرى عرفت ب Cts Bolle-Laroche c/ Agent judiciaire du trésor بتاريخ 23/2/2001 عندما توسعت في تفسير الخطأ الجسيم بالمعنى الذي يقصده نص الفصل 781 من القانون الإجرائي الفرنسي الذي يشترط الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية الدولة عن أعمال القضاة. فأقرت المحكمة أنها تجد من الصعوبة إجراء تمييز بين الخطأ الجسيم والخطأ البسيط. وأن المسؤولية تترتب عند توفر الخطأ دون الاعتداد بجسامته أو بساطته. وعندما نظرت الجمعية العامة لمجلس الدولة في قضية Magiera وضعت جميع هذه الاعتبارات أمامها، وأرادت تكريس المبدأ الذي وضعته المحكمة الأوروبية، وذلك من أجل تجنيب الدولة الفرنسية من المقاضاة أمام هذه المحكمة، لذلك فإن مجلس الدولة لم يكتفِ بتثبيت الحكم الذي توصلت إليه محكمة استئناف باريس، بل عمد إلى تغيير الأساس القانوني الذي استندت إليه، أي استبعد فكرة الخطأ الجسيم، واكتفى بشرط تأخر القاضي عن إصدار الحكم في المهلة المعقولة ليربط بهذا التأخر مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية. وقد أضاف هذا الحكم حجرا جديدا في بناء المسؤولية دون خطأ التي ما كف القضاء عن تطويرها وتوسيع مجالات تطبيقها. إن هذا الحل الذي انتهى إليه قضاء أروبا إنما هو حل قديم تضمنته مجموعة المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية والتي اعتُمدت في مؤتمر الأممالمتحدة السابع حول منع الجريمة ومعاملة المجرمين، المعقود في ميلان في الفترة من 26 أوت إلى 6 سبتمبر 1985، ووافقت عليها الجمعية العامة في قرارها 40/32، المؤرخ 29 نوفمبر 1985، وقرارها 40/146، المؤرخ في 13 ديسمبر 1985. وقد ورد بهذه المبادئ ما نصه: " أن الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يضمن، إضافة إلى ذلك، الحق في المحاكمة دون تأخير لا مبرر له". لقد كان في مستطاعنا السبق إلى مثل هذا الحل لو كنا حريصين على العدالة، العدالة كمرفق عام لا سلطة فحسب. إننا إذ نتطلع اليوم إلى تحقيق استقلالية القضاء في بلدنا، فإننا نعتقد أن هذه خطوة سنقطعها بعون الله في نهج العدالة، فاستقلالية القضاء ليست غاية وإنما غايتنا العدالة ما أمكن.