في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة وغير بعيد عن المحلات القديمة لباعة الورود.. وقبالة المباني البلورية الجميلة التي تبيع الحلويات وأجمل المشروبات والملابس سرداب مظلم في"الطابق الأرضي" أو "تحت ارضي" أرغم على "زيارته" والإقامة فيه عشرات الآلاف من شباب تونس ورجالاتها طوال العقود الماضية: شباب من كل التيارات ذنبهم الوحيد إنهم عارضوا الحكومات.. أوحاولوا أن يعارضوها..او"اتهموا"بالمعارضة.. شباب من "اليوسفيين" الذين اضطهدوا ثم قتلوا اوحكم عليهم بالسجن مدى الحياة لأنهم اتهموا بمعارضة بورقيبة.. وشباب من تيارات يسارية اشتراكية وقومية ناصرية وبعثية برزت في الستينات من "مجموعة آفاق" الى تنظيمي "العامل التونسي" و"الشعلة" ورفاقهم.. شباب كان ضحية "تقارير امن الدولة" DST فكان جزاؤه التعذيب في "الدهليز" و"السرداب" ثم أعواما قاسية من السجون بين برج الرومي والناظور ومحتشدات المناطق الداخلية.. شباب من التيارات الإسلامية المختلفة شاءت الأقدار أن يقودوا احتجاجات الطلبة ثم الشارع التونسي منذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات فكان جزاؤهم سنوات طوال من القمع والاضطهاد بناء على ملفات "مزيفة"و"مهولة" وقعت صياغتها في "محلات امن الدولة" و"المصالح المختصة "وفرق" الارشاد".. فتيان وفتيات.. كهول واطفال ونساء وشباب مروا من سراديب وزارة الداخلية ومحلاتها في كل الجهات.. عشرات الالاف من التونسيين والتونسيات اكتووا بنار التعذيب في محلات "البوليس السياسي".. وجربوا هناك "الفلقة" والتعليق على طريقة "الدجاح المصلي" (الروتي).. و"بيت الصابون".. وغيرها من الاساليب البشعة.. وكان كثير منهم حاضرا في مسيرة 14 جانفي امام مبنى وزارة الداخلية.. هل يغلق هذا الملف نهائيا ؟ انه فعلا حلم .. وكل حلم يصعب تحقيقه وان شاءت الظروف ان يجسم جزئيا.. وهو حلم لمن عذب واضطهد وهو بريء.. بريء.. لكنه اعترف بعد ان انهاربسبب عصا الجلادين.. من المفيد أن توجه رسائل سياسية تؤكد طي صفحة الماضي.. لكن الاهم عقلنة التعامل مع الملفات.. ففي كل بلدان الدنيا "بوليس سياسي"..بدءا من اعرق الديمقراطيات مثل بريطانيا وسويسرا وامريكا وفرنسا.. ولا مجال للاستغناء عن قوات الامن المختصة في الملفات السياسية.. لكن ينبغي القطع مع الظلم و"فبركة" الملفات.. والتمييز بين رجال الامن المشهود بنزاهتهم وكفاءتهم والبقية.. فلتمض خطة اعادة هيكلة وزارة الداخلية بواقعية وبعين تحررية.. بعيدا عن عقلية الثاروالانتقام.. في هذا الاتجاه اوذاك.. بل برؤية تضع مصلحة تونس ومستقبلها فوق كل اعتبار..