صالح عطية القضاء أساس العدل في أي دولة ديمقراطية. والدول التي قطعت أشواطا في مجال الحكم الرشيد هي التي بدأت بإصلاح وضع القضاء بوصفه الرافعة الأساسية لأية عملية انتقال ديمقراطي حقيقي. ولا شك أن المؤسسة القضائية قد عانت في تونس خلال ما يناهز الخمسين عاما الماضية من هيمنة القصر الرئاسي، وتعليمات التجمع الدستوري والمؤسسة الأمنية، بما نخر عظمه، وأفقد ثقة المواطن فيه، لكن ذلك لا يمكن أن يحجب عنا حرص بعض القضاة وهم قلة قليلة على استقلاليتهم وحرمة هذه المؤسسة وقدسية دورها في الحياة العامة. واليوم إذ يجادل المختصون ورجال القانون حول مستقبل القضاء من خلال بحث الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، في الصيغة المثلى لتركيبة المجلس الأعلى للقضاء، والنظر في عملية الفصل بين المجلس الأعلى للقضاء والسلطة التنفيذية، وإعادة هيكلة الصلة بين السلطتين بعيدا عن المساس باستقلالية القضاء، فإن ذلك يعدّ مدخلا لا مشاحة فيه لكي يسترد القضاء هيبته ومكانته كجزء من العملية الديمقراطية وبناء الحكم العادل ودولة القانون والمؤسسات فعلا، وليست تلك التي اتخذ منها النظام المخلوع عنوانا للكذب على عقولنا والضحك على ذقوننا طوال أكثر من عشرين عاما. إن استقلالية القضاء، تبدأ تحديدا من إعادة النظر في تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، وفصله نهائيا عن رئيس الجمهورية وبالتالي عن السلطة التنفيذية، وإرساء مبدأ الانتخاب صلبه، حتى لا يسطو عليه أي طرف في الحكم أو من خارجه، ولا بد كذلك مراجعة مسألة نقلة القضاة، باتجاه التنصيص دستوريا على عدم قابلية نقلة القاضي بدون رضاه، بما يجنب القضاة الخضوع لأي سلطة تأديبية، كما يجنبهم عمليات العزل والنقلة التعسفيين اللذين يمثلان بحق مسا واضحا من استقلالية القضاء. الغريب في الأمر، أن الدستور الحالي لبلادنا، لا يعترف بوجود سلطة قضائية مستقلة حيث يكتفي بالتنصيص على أن القضاة مستقلون فحسب، وهذا معناه أن التواطؤ ضد المؤسسة القضائية بدأ منذ تأسيس الجمهورية في خمسينيات القرن المنقضي، وهو ما يفترض مراجعة عميقة لهذا السلك الهام في مستقبل تونس. لا يمكن الحديث عن منجزات ثورة، وعن مستقبل سياسي ديمقراطي للبلاد، خارج تحرير القضاء من كل هيمنة، ومن دون استقلال تام للقضاء بلا أدنى قيد أو شرط، لأن أي محاولة للالتفاف على الثورة المباركة، سيكون مدخلها القضاء، لأنه أساس العدل الذي يترقبه التونسيون، كل التونسيين..