*الثورة التونسية انجاز تاريخي قاده الشباب واندمجت فيه أغلب مكونات المجتمع المدني. وهي نتيجة تراكمات عديدة دامت على مر السنين واتسمت يخنق الحريات وتتابع التضييقات والإقصاءات على كل المستويات السياسية والإجتماعية والمعيشية، وغابت فيها العدالة الاجتماعية وانخرمت التوازنات الجهوية، قابلها وعي اجتماعي ونضج سياسي وطموحات نبيلة مع كفاءة تكنولوجية عالية، فأدى هذا إلى وضع قابل للانفجار أذكت شعلته عملية انتحار الشهيد محمد البوعزيزي وأججه حراك الشارع في مختلف الجهات مع تضحيات الشهداء الأبطال. ولئن اتسمت الفترة التي تلت اندلاع الثورة بالضبابية السياسية وعدم الاستقرار الأمني والإحتماعي فهذا طبيعي نظرا لما تفرزه هذه الوضعية من مقاومة ووجود عديد العراقيل من أطراف داخلية وخارجية لا تنسجم مصالحها مع الواقع الجديد، زيادة على اختلاف الرؤى والأهداف للأطراف الفاعلة والمشاركة بصيغة أو بأخرى في هذه المرحلة. علما أن المحيط العام ليس مستعدا بالضرورة الاستعداد الكافي، وليس متهيئا بمختلف مكوناته لتسيير المرحلة الانتقالية نظرا لتراكمات الماضي وطرق العمل غير الملائمة التي تعود عليها المسؤولون والمسيرون لمختلف هياكل الدولة والإدارة، وعدم كفاءة البعض منهم للاضطلاع بأعباء هذه المرحلة. الا أنه من الأهمية بمكان أن يتجه الوضع تدريجيا نحو الاستقرار الذي يمكن من بلورة الأهداف وتحديد السبل التي سيقع انتهاجها خلال الفترة الموالية ويتطلب هذا توافقا حول المبادئ والقيم الأساسية التي ستبنى عليها الجمهورية الجديدة ومن أهمها الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وعلوية القانون مع الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية لتونس. فتونس لم تنشأ منذ 23 سنة أو منذ الاستقلال كما قد يتبادر للأذهان عند قراءة بعض التحاليل والأطروحات التي تنشر هنا وهناك خلال هذه الفترة، بل هي بلد عريق لها تاريخ وحضارة صنعت الأبطال والأمجاد وكان لها إشعاع على مدى العصور إقليميا وعالميا في مختلف الميادين والعلوم، وساهمت في نشر وتطوير الحضارة العربية الإسلامية عبر العالم. وحتى لا تحيد هذه الثورة عن مسارها لا بد من استنباط الآليات التي تمكن من الوصول تدريجيا الى تحقيق الأهداف التي بعثت من أجلها مع اعتماد الواقعية والحرص على التوفيق بين متطلبات المرحلة الانتقالية وتثمين المناخ الجديد الذي يتسم بالحرية والانفتاح مع مراعاة ضرورة تواصل سير الحياة الاجتماعية والاقتصادية فالمتصفح لمختلف عناوين الصحافة الوطنية والمستمع للحوارات الإذاعية والمشاهد للقنوات التلفزية لا يقرأ ولا يسمع ولا يشاهد إلا حوارات وتحاليل سياسية حول الواقع والمستقبل السياسي لتونس بعد الثورة وطرق تنظيمه والصيرورة به نحو بر النجاة وتحقيق نظام ديمقراطي يضمن للشعب حريته ومشاركته الفعلية في اتخاذ القرار على جميع المستويات. وان كان هذا الاهتمام بالشأن السياسي من الأهمية بمكان فإن الغوص في المواضيع المتعلقة بالمسائل الاقتصادية (الفلاحة، الصناعة، التجارة، السياحة، الخدمات،... الخ) والتربوية والثقافية والاجتماعية والبيئية وتبادل الآراء وتكثيف الحوار والنقاش حولها لا يقل أهمية بل هو عمود الانتقال من وضع كانت تطبخ فيه السياسات قي الكواليس وتقدم جاهزة إلى الشعب دون أن يكون له رأي فيها إلى عهد جديد يتميز بمشاركة الجميع في تحديد الاختيارات والبرامج سواء على المستوى المحلي أو الوطني عبر أطر منتخبة وممثلة للشعب. إن الخوض في هذه المسائل الحياتية خلال الفترة الانتقالية يمكن من تشريك الكفاءات والخبرات الوطنية كل في مجال اختصاصه في رسم ملامح المرحلة المستقبلية والمساهمة الفعالة في صنع الغد المشرق لتونس، كما يمكن الأحزاب والمنظمات من بلورة برامجها واختياراتها التي على أساسها سيقوم الشعب باختيار ممثليه على المستوى المحلي والوطني. فالأحزاب التي يختزل برنامجها في انتقاد الآخرين ورفع الشعارات الجوفاء أو إسناد الصفات والنعوت المختلفة على خصومها السياسيين مهما كانت خلفياتها ليس بإمكانها تحقيق تطلعات مختلف فئات الشعب وبالتالي الاستمرار طويلا على الساحة السياسية كما أن رفع شعارات تحرض على المغالاة في المطلبية على كل المستويات وتعطيل السير العادي لمختلف المصالح سواء كانت اقتصادية أو تربوية أو إدارية بعنوان الثورة يمكن أن يخفي وراءه غايات أكثر خطورة ممن يدعو إلى بث الفوضى ويلقي الخوف والرعب في النفوس لأن محدثي الشغب بادون للعيان في حين أن تعطيل عمل الآلة الاقتصادية والاجتماعية أثره خفي وأطول أمدا. فالتعامل مع المطلبية يستوجب التمييز بين الحالات المستعجلة التي يتم البت فيها من طرف مختلف الهياكل الإدارية والجماعات المحلية في ضوء توجهات عامة تحددها الحكومة الانتقالية، والحالات التي تتطلب تغييرات وإصلاحات قانونية وهيكلية وإيجاد آليات وتمويلات ملائمة فيجب حصرها وضبطها لتتولى الحكومة المستقبلية الناتجة عن انتخابات حرة وديمقراطية اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيقها في ضوء اختياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية التي ستنتخب على أساسها فالاستجابة المفرطة لمختلف المطالب وان كانت شرعية دون تغيير للاختيارات والسياسات هو عبارة على تسكين للعلل وليس علاجا للمرض وسيؤدي حتما إلى انخرام في التوازنات الاقتصادية مما ينجر عنه تدهورا للحالة الاقتصادية وتأزما للوضع الاجتماعي. ولا يعقل أن تترك المرحلة الانتقالية للنظام المستقبلي الذي سينتخبه الشعب إرثا وعبئا يعيقاه عن القيام بالإصلاحات التي تتطلبها المرحلة القادمة. أما من الناحية الأمنية فليس هناك اختلاف على أن استتباب الأمن واستقرار الأوضاع هو شرط أساسي لتحقيق مختلف الأهداف العاجلة والآجلة سواء تعلقت بالإصلاح السياسي أو بالمحور الاقتصادي والاجتماعي وهذا ليس بالأمر الهين. فالانتقال من جهاز أمني كانت مهمته الأساسية حماية النظام الحاكم ومختلف المؤسسات الخاصة والعامة المرتبطة به والتي تدور في فلكه إلى أمن يسعى إلى تحقيق أمن الشعب وحماية حقوقه وسلامته الجسدية والمعنوية والحفاظ على ممتلكاته يتطلب ثورة في العقول وتغييرات جذرية في هيكلة مختلف مكونات المؤسسة الأمنية وطرق عملها. وهذا عمل طويل المدى يتطلب وضع منهجية دقيقة ومتابعة تطبيقها ويبدأ بإرجاع الثقة إلى مختلف أفراد الأجهزة الأمنية وتطهيرها من العناصر التي تثب التحقيقات تورطها. إن تضافر جهود جميع التونسيين والتونسيات مهما كانت مشاربهم واتجاهاتهم و توافقهم حول حد أدنى من الأهداف المشتركة هو الكفيل بإنجاح ثورة الكرامة وفتح آفاق لأبناء هذا الوطن لتحقيق ما يصبون إليه من أمن ونماء وتوفير مقومات الحضارة للأجيال القادمة في ظل ما عرف به هذا الشعب العظيم من وسطية واعتدال وطموح نحو الرقي والازدهار . * أستاذ محاضر مدير المعهد العالي للدراسات التحضيرية في البيولوجيا والجيولوجيا بسكرة