*إن ما حصل في المدرسة التّونسية في العهد السابق (ودون الرجوع أكثر الى الوراء في العهد البورقيبي و خاصة زمن ما سمي بسياسة التّعريب في عهد مزالي) تحت شعار الإصلاح و مواكبة الحداثة و مستجدات علوم التربية و غير ذلك من الشعارات التي تضمّنها القانون التوجيهي للتربية والتعليم الصادرسنة 2002 ليس غير واجهة للتّسْويق و غطاءً برّاقا لواقع مؤلم ترزح تحته المنظومة التربوية في تونس و له انعكاسات خطيرة جدّا على مستقبل البلاد. لقد حان الوقت الآن - بعد أن بدأت تطمئن القلوب على مصير الثورة و مستقبل الوطن- للتفكير في وضع التربية و التعليم بوصفه أحد المشاغل الكبرى لتونس ما بعد الثورة. إنه في تقديري وضع يستوجب خُطّة إنقاذ تربوي ضمن سياق الثورة التونسية في المنظورين القريب و البعيد باعتبار الأهمية الإستراتيجية لقطاع التربية و أبعاده المتعددة إقتصاديا و ثقافيا واجتماعيا و سياسيا و حضاريا. خُطّة إنقاذ تعيد الإعتبار للمدرسة التونسية و تخلّصها من الشوائب و المعوقات الهيكلية التي أصابتها حتى تستطيع القيام بدورها الطبيعي البنّاء في المجتمع التونسي حاضرا و مستقبلا. ولكي نضمن لهذه الخطّة أسباب النجاح على أسس متينة و واضحة، لا بُدّ أن نجنّبها مخاطر عدّة كانت تطبع السياسة التربوية التّجمّعية : الإرتجال و التسرّع و التذبذب والإسقاط والاستفراد بالرأي، أي لا بُدّ ان تكون هذه الخطة محل تشاور وطني واسع تشارك فيه مختلف هياكل المجتمع المدني ذات الصّلة والأحزاب السياسية و كذلك موضوع دراسة متبصّرة يساهم فيها أهل الاختصاص بدءبعملية تشخيص الواقع و وصولا الى الحلول العلاجية الناجعة. إنطلاقا من موقعي كمُدرّس سابق باشر التدريس منذ نهاية السبعينات ثم كمتفقد عاين طيلة عشر سنوات واقع التدريس في الأقسام و مارس وظيفة التقييم و التكوين لعدد كبير من الأساتذة تخرج معظمهم من الجامعة التونسية في العشرية الأخيرة، سأحاول تقديم تشخيص أوّلي لواقع المنظومة التربوية التي استفحلت فيها عللٌ تكاد تصبح مزمنة. و عملا بقاعدة «لا علاج ناجع بدون تشخيص دقيق وواضح»، سأكتفي حاليّا بمحاولة تشخيص سريع لعلل ستّ كانت تنخر و لا تزال جسم المنظومة التربوية مع ما ينجرّ عنها من أضرار جسيمة. 1 - التوظيف السّياسي للمؤسّسة التربوية وفق غايات تمليها مصالح حزب التجمّع المستبدّ ومصالح الدّوائر العالمية المسيطرة و ذلك من حيث محتويات برامج بعض المواد ومن حيث التسيير الإداري المعتمد على قاعدة الولاءات قبل الكفاءات مثلما هو الشأن في مختلف أجهزة الدولة. و يكفي أن نذكر مثال تعيين أشخاصٌ تربّوا على «هزّان القفة» و «التبندير لصانع التحوّل» - لأغراض شخصية معروفة و على حساب مصلحة الوطن و المجتمع - على رأس معظم الإدارات المركزية بالوزارة والإدارات الجهوية و المعاهد و الإعداديات. 2 - ضعف مستوى التكوين المعرفي الأكاديمي لعدد كبير من خريجي الجامعة منذ ما لا يقل عن عشر سنوات (أي الذين زاولوا دراستهم الثانوية و الجامعية في عهد الدكتاتور الفاسد) قبل أن يقع انتدابهم للتدريس. ان مؤشرات هذا الضعف عديدة وواضحة للعيان خاصة لدى المتفقدين و الأساتذة الجامعيين عندما يقيمون تحارير المترشحين لمناظرة الكاباس. وهو ضعف يحيلنا على معضلة «طلب الشيء من فاقده» التي جعلت من هؤلاء المدرسين -الذين هم نتاج و ضحايا المنظومة الفاسدة خلال العشريتين الماضيتين- أشبه بأبطال تراجيديين قُدّر لهم أن يَتَحدّوا صعابا و يواجهوا مطبّات و ينفّذوا رسالة ليس لهم القدرة الكافية على تنفيذها برغم ما يحدوهم من عزم و إرادة. 3 - الغياب الكامل للتكوين الصناعي (البيداغوجي) قبل مباشرة التدريس و في ذلك جهل أو تجاهل لأحدى الشروط الأساسية للنجاح في مهمة التدريس التي لا تستند فقط على ضرورة امتلاك الزّاد المعرفي السليم بل تتعدّاه إلى ضرورة امتلاك تقنيات التّواصل و التّنشيط وإدراك قواعد علم نفس الطفل و المراهق وغيرها من مكوّنات تَعلُّمية المواد و البيداغوجيا. 4 - برامج و كتب مدرسية يطغى على البعض منها التسرّع و الإرتجال و الإسقاط و قلّة الإنسجام ولم تسلم بدورها من الفساد و المحسوبية عند إعدادها. فقد تمّت عملية وضع البرامج وتأليف الكتب المدرسية المتداولة الآن بطريقة التّعيين لا التناظر مثلما كان معمولا به في السابق و لا يَخفى على أحد ما يعتري هذه الطريقة من شُبهات. وقد وقع إلزام المتفقدين واضعي البرامج و مُؤلفي الكتب و مُقيّميها بإتمام العمل في وقت ضيق اضافة الى بقية الأعمال الماراتونية التي يقومون بها في دوائرهم- و في ظروف قاسية أحيانا تدفعهم الى الإرتجال والتغاضي على بعض الهنات. و إذا أخذنا بعين الإعتبار ضعف التكوين العلمي و البيداغوجي لعدد من المدرسين، ندرك كيف تزداد مهمّة هؤلاء صعوبة و تعقيدا حين نضع بين أيديهم مراجع و أدوات عمل من هذا الصنف. 5 - منظومة تقييم لمكتسبات التلاميذ تقوم على مبدء «الإنجاح» و تضخيم النتائج و تُشّجع على الدروس الموازية و تنسف قيمة الشهادة التونسية. لا بد هنا أن نذكّر ببعض القرارات المتّخذة في هذا الشأن منذ سنوات طويلة و فعلت فعلها في التّضخيم الكمّي و التّفقير النّوعي لأصحاب الشهائد: الإرتقاء الآلي في التعليم الابتدائي، إلغاء الطابع الإجباري لامتحاني السيزيام و النوفيام، قاعدة ال25 في المائة في امتحان البكالوريا. 6 - الإرتجال والإضطراب في عديد الإجراءات و القرارات الوزارية الهامة و المُكلفة و يكفي أن نذكر مثال المقاربة بالكفايات أو التعلّمات الإختيارية أو مخابر اللغات في الإعدادي و الثانوي وامتحان الرابعة أساسي واحتساب المعدلات في الإبتدائي. هذه بعض العلات الخطيرة التي تشكو منها المنظومة التربوية الموروثة عن العهد البائد : - ضعف المستوى الحقيقي للتلاميذ في مختلف المجالات ولهثهم وراء أعداد و معدلات مضخم فيها بكل الوسائل بعد أن أصبحت غاية في حد ذاتها. وقد عكست النتائج التي تحصلت عليها بلادنا وترتيبها في البرنامج الدولي لتقييم مكتسبات التلاميذ« PISA » لسنة 2009 هذا الضعف بشكل فاضح اذ كانت النتائج في القراءة و في الرياضيات و في العلوم أقل بكثير من المعدل العام و الترتيب ضمن الدول الأخيرة المشاركة و عددها 75. - تضخم عدد حاملي الشهائد الجامعية دون الكفاءة المطلوبة و صعوبة استجابتهم لمتطلبات سوق الشغل. - تقلص دور المدرسة قي ترسيخ القيم الأخلاقية و الحضارية و الانتماء للهوية و الوطن وفي الحد من ظاهرة العنف بشكليه اللفظي و البدني لدى عدد كبير من الشباب. - علاقة التلميذ بالمعرفة و بالمؤسسة التربوية و بالمدرس : علاقة متوترة الى حد العداء أحيانا وما ينتج عنه من مخاطر الإنقطاع المُبكّر و العنف و الإنحراف . ان بلادنا التي بدأت تقطع مع النظام السياسي الاستبدادي بفضل ثورة الحرية و الكرامة و تستعد لتأسيس نظام سياسي جديد يليق بحضارتها و يستجيب لطموحات شعبها، سوف تقطع كذلك مع مخلفات النظام السابق في مختلف المجالات، و من أهمها مجال التربية و التعليم نظرا لقيمته الاستراتيجية في بناء المستقبل. * متفقد أول للمدارس الإعدادية و المعاهد