*بعيدا عن الإثارة وركوب الأحداث أو استغلال الظرف الراهن، فإني سأتناول الحكم الإستعجالي الصادر عن المحكمة الإبتدائيّة بتونس في 5 مارس 2011 من الناحية القانونيّة الصرفة. لقد قضت المحكمة « بإيقاف أعمال ما يسمّى باللجنة الوطنيّة للإستقصاء في مسائل الرشوة والفساد وذلك لحين استكمالها لإجراءات تكوينها القانونيّة وإلزام المدّعي عليهم بتسليم ما تجمّع لديهم من وثائق بمناسبة عملهم باللجنة المذكورة إلى النيابة العموميّة لدى المحكمة الإبتدائيّة بتونس مع الإذن بالتنفيذ على المسودّة «. ولئن كان نص الحكم واضحا في معناه، فإنه قابل للنقاش من زاويتين على الأقل: من حيث الشكل من جهة ومن حيث الإختصاص من جهة أخرى. من حيث الشكل: من المعلوم والبديهي أن من الشروط الأساسيّة لرفع دعوى قضائيّة الصفة والمصلحة في التقاضي إذ يجب أن يكون للمدّعي وضعيّة يحتج بها لتبرير قيامه بالدعوى. ولقد أكد جمهور الفقهاء على أن المصلحة يجب أن تكون مباشرة، شرعيّة ، شخصية ومؤكدة وليس على سبيل الإفتراض. كما استقر فقه القضاء على أن المصلحة في القيام هي من متعلقات النظام العام التي تتولى المحكمة إثارتها تلقائيا وأن تقديرها يتم في تاريخ رفع الدعوى. وبالرجوع للحكم الإستعجالي فإن القضيّة رفعت من قبل مجموعة من الأشخاص لا تربطهم بأعمال اللجنة أي صفة أو مصلحة، إذ لم يقع استدعاؤهم مثلا للمثول أمام اللجنة أو مطالبتهم بكشف حقائق بخصوص ارتكاب جرائم فساد مالي أو إداري أو جرائم إرشاء أو ارتشاء. وفي مثل هذه الأحوال فقط يمكن مثلا أن تقبل الدعوى لو كان المدّعي متضرّرا ضررا مباشرا وشخصيّا من أعمال اللجنة. وعليه فإن الصفة والمصلحة لا تبدو متوفرة في قضيّة الحال. هذا فيما يخص المدّعين، أما فيما يتعلق بالمدّعى عليهم، فإن القضيّة رفعت ضدّ أعضاء اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الرشوة والفساد. وعلاوة على تمتّع رئيس اللجنة وأعضائها بالحصانة ضدّ التتبّعات فيما يتعلق بممارسة مهامهم حسب صريح الفصل 5 من المرسوم عدد 7 لسنة 2011 المؤرخ في 18 فيفري 2011، فإن القضيّة تبدو مرفوضة شكلا طالما وقع رفعها ضدّ المدعين بصفتهم أعضاء للهيكل المذكور وليس ضدّ المكلف العام بنزاعات الدولة. فالفصل الأول من القانون عدد 13 لسنة 1988 المؤرخ في 7 مارس 1988 المتعلق بتمثيل الدولة والمؤسسات العموميّة ذات الصبغة الإداريّة والمؤسسات الخاضعة لإشراف الدولة لدى سائر المحاكم ينص على أنّه « ترفع من المكلف العام لنزاعات الدولة أو ضدّه الدّعوى التي تكون الدولة أو أي مؤسسة عموميّة ذات صبغة إداريّة طرفا فيها طالبة كانت أو مطلوبة لدى المحاكم العدليّة أو الإداريّة وإلا تكون الدعوى باطلة من أساسها «. ولم يقر التشريع التونسي إلا استثناءعلى حدّ علمنا ويتعلق برفع دعوى تجاوز السلطة ضدّ القرارات الإداريّة وبالنزاعات ضد المصالح المالية و الجبائية. وبالتالي فإنّ القضيّة ضدّ اللجنة لا يمكن أن ترفع قانونا إلا ضدّ المكلف العام بنزاعات الدولة. من حيث الإختصاص: لقد صدر هذا الحكم من قبل المحكمة الإبتدائيّة بتونس والحال أنّ المحاكم العدليّة ليس لها حسب منطوق الفصل 3 من القانون الأساسي عدد 38 لسنة 1996 المؤرخ في 3 جوان 1996 المتعلق بتوزيع الإختصاص بين المحاكم العدليّة والمحكمة الإداريّة وإحداث مجلس تنازع الإختصاص « أن تنظر في المطالب الرامية إلى إلغاء المقرّرات الإداريّة أو الإذن بأي وسيلة من الوسائل التي من شأنها تعطيل الإدارة وتعطيل سير المرفق العمومي «. ولقد استقرّ فقه القضاء على أنّ هذا التحجير لا يطبق إلا على القاضي العدلي بصفته تلك وإن هذا المنع لا يخص القاضي الإداري. وعليه فإن صدور الحكم من القاضي العدلي يجعله مشوبا بعيب الإختصاص الذي يتعيّن على المحكمة إثارته من تلقاء نفسها. إن استقلال القضاء والمحاماة وهيبتهما تستوجب من الجميع التقيّد بالمبادئ القانونيّة لأن بلادنا تحتاج إلى قضاء مستقل ومقتدر ومسؤول وإلى محاماة ترعى حقوق الناس. فعلينا الإنصراف للعمل والتقيّد بسلوك يحقّق الديمقراطيّة التي جاءت من أجلها الثورة. * دكتور في القانون و مدرس في كلية الحقوق بصفاقس