*انهى الكاتب الحلقة الثالثة من مقاله بالإشارة كيف أن الثورات اندلعت في ظل الأنظمة التسلطية القمعية مستشهدا بأنظمة بن علي ,مبارك والقذافي وفي هذا الجزء يواصل حديثه في ذات الاتجاه: لقد تمكنت هذه الأنظمة التي احترفت القمع، والفساد، وبرعت في استخدام إرهاب الدولة تحت يافطة القانون وذريعة مقاومة الإرهاب - يتم ذلك، بمرأى ومسمع من الديمقراطيات الغربية حارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان- أن تشلّ المجتمع السياسي، وتدجّن مؤسسات المجتمع المدني، همّها من ذلك توفير الشروط الضروريّة لإعادة إنتاج نفسها، والحؤول بسياسة العصا والجزرة، دون نموّ أيّة قوّة سياسية قد تنازعها، يوما، الحكم أو يراودها يوما، مجرّد الأمل في تكريس مبدأ التداول السلمي على السلطة. لهذه الأسباب لا يمكن أن التعاطى مع هذه الثورات بنفس الجهاز المفهومي الذي يتمّ به التعاطي مع الثورات الكلاسيكيّة، ولا يصحّ قياس هذه على تلك، فهي تختلف عنها من حيث المرجعيات، وأساليب العمل، وأدوات النشاط، وإن كانت تتفق معها من حيث الغاية ألا وهي التغيير الجذري للنظام القائم. هذه الثورات ليست ثورات مسلّحة، ولم تلتجئ لأيّ شكل من أشكال العنف الثوري، أداتها الرئيسية في النضال التظاهر السلمي، وشعارها المركزي الإطاحة بالنظام. أمّا الوجه الثاني للاختلاف بين هذه الثورات وبين الثورات السابقة، هو أنّ برامجها ومطالبها تنضج وتتبلور أثناء العملية الثورية وفي المرحلة الفاصلة بين النصر الأول والنصر الثاني. وبناء على هذا التوصيف لخصوصيات الثورات الجديدة، لا يجوز لنا القول: أنها ثورات لم تكتمل، أو أنّها مجرّد انتفاضات، لأنّ ذلك يعني، اتخاذ الثورات السابقة كمرجعية لتحديد طبيعة هذه الثورات، وتقييم أدائها، وهو ما لا يصحّ من الوجهة العلميّة. لا جدال أنّ فهم طبيعة هذه الثورات، والمسك بالأسباب العميقة التي أثمرتها، وتحاليل التناقضات الواضحة للأنظمة، والتي ساعدت على تسريعها، تحتاج إلى دراسات معمّقة. لكن ما يمكن قوله بمعالجة، هو أنّ هذه الثورات من نوع جديد. يكفي أن نعرّفها بأنها البدائل لهذا النوع الجديد من الأنظمة الاستبداديّة. لقد كان من المفروض أن تكون المبادرة بمعالجة قضيّة الشرعية بأبعادها السياسية والدستورية، والتي طرحتها خصوصيات الثورة التونسية، في صدارة أولويات «لجنة الإصلاح السياسي». ولهذا السبب بالذات فإنّ هذه اللجنة ينبغي أن تكون لجنة سياسية بامتياز، وإن لم تكن كذلك فعليها أن تكون كذلك، إذ لا يمكن بأيّة حال، أن تكون مجرّد «لجنة خبراء» لأنّ لجنة كهذه لا يمكن أن تتولى إدارة العملية السياسية، وبلورة ملامح النظام السياسي والمشروع المجتمعي لتونس الجديدة، عوضا عن «المجموعة الوطنية»، بمختلف أطيافها السياسية، والمجتمع المدني بمختلف مكوناته، والهيآت التمثيلية لشباب الثورة، وهي القوى التي تؤهلها الحالة الثورية، ومتطلبات هذه الظرفية الاستثنائية، للاضطلاع بهذه المهمة. لا حرج أن تتبنى الحكومة المؤقتة قرارات ابن علي، في هذا المجال، لكن المفارقة هو أن تتجاهل أنّ عصرا جديدا على الأبواب، وأنّ خلفيات الدعوة لتشكيل تلك اللجان وغاياتها لا يمكن أن تكون ذاتها في عهد ابن علي، وفي عهد ما بعد ابن علي. وأنّ منطق الشرعيّة الدستورية الذي كان سيحكم الإصلاحات التي اعتزم الرئيس المخلوع القيام بها، في وضع عادي، قد قوضه أو بصدد تقويضه منطق الشرعية الثورية، ومتطلبات الوضع الاستثنائي الذي فرضته الثورة. إنّ الحكومة، وكذا اللجنة التي شكلتها لم تنتبها، بالقدر الكافي، لهذا المتغيّر. لقد كان من المفروض أن تراجع الحكومة الجديدة المسألة في ضوء هذه الإشكاليات، وبهاجس البحث عن حلول للمأزق الدستوري والسياسي، الذي أثمرته طبيعة الثورة. لو حصل ذلك لتبين لها أنّ مسار الإصلاحات السياسية التي تتطلبها الوضعية الجديدة لا يمكن أن يكون من مشمولات «لجنة خبراء»، كما هو الحال في الوضعيّة العاديّة، لأنّ الإشكالية المطروحة، هي في جوهرها، إشكالية سياسية، وبما أنها كذلك كان على الحكومة أن توكل أمر معالجتها لهيكل سياسي تكون «لجنة الخبراء» إحدى مفرداته. ومن هذه الزاوية يصح القول أنّ اللجنة قد تجاوزتها الأحداث بعد قيام الثورة، وأنّ الرؤية للإصلاح السياسي، التي طرحها الواقع الجديد الذي أنشأته الثورة، تختلف، حتما، عن رؤية الإصلاح السياسي في عصر ما قبل الثورة. هذه الرؤية التي لم تعرها، لا الحكومة ولا لجنتها، الاهتمام الكافي، استأثرت، ومنذ انتصار الثورة، باهتمام عدد من الشخصيات الوطنية، وثلّة من الأساتذة المرموقين في القانون. لقد كان من المفروض أن تتولّى اللجنة تنبيه الحكومة لمأزق الشرعية التي طرحته الوضعية الثورية، وأن تمدّها بالنصح، وتساعدها على إيجاد الحلول للخروج من هذا المأزق، ليس هذا فقط، بل كان عليها أن تتصدّى للتيارات المتواجدة داخل الحكومة التي تتجاهل هذه الإشكالية، وتصرّ على التعاطي مع قضيّة الشرعية، وكأنّ شيئا لم يكن. كان هذا المفروض لكن، ما راعنا هو حسم السيد عياض بن عاشور رئيس اللجنة في المسائل الخلافية الرئيسية، موضع الجدل الساخن بين ألوان الطيف السياسي، ومكونات المجتمع المدني، حسمها من وجهة نظر الأطراف الحكومية المتقوقعة في منطق الشرعيّة الدستورية. حسم في مسألة الانتخابات لجهة تلك الأطراف، فقد قال في حديث لجريدة الموقف (12/12/2011) (أن عندنا مرحلة انتقالية سيتم خلالها انتخاب رئيس يتعهد بحل المجلس، ويدعو إلى مجلس جديد، يكون في نفس الوقت تشريعي وتأسيسي لدستور جديد للبلاد) صحفي ومحلل سياسي