هيئة المصارحة هي الحل للمصالحة الذاكرية الذكرى 55 للاستقلال ستكون الأولى بعد تحقيق التونسيين لثورتهم الشعبية يوم 14 جانفي على الدكتاتورية... التي دامت لأكثر من ربع قرن فهل ستكون موعدا لإعادة كتابة تاريخ تونس المعاصرة أ وتأريخ جديد للذاكرة الوطنية؟ وتكون بالتالي فرصة لاعادة الاعتبار لشخصيات ساهمت في بناء تونس التاريخ...وتم تغيبها عن قصد من أجل ظهور أخرى، ومجالا لتقديم قراءة جديدة لحقبة زمنية أثرت فيها السياسة على دراسة التاريخ. وفقا للمؤرخ الجامعي والأستاذ في التاريخ السياسي المعاصر خالد عبيد، لا ترتبط المسألة بإعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية قدر ارتباطها بإعادة تأْريخ الكتابة التاريخية التونسية على وقع التسارع الحدثي الآني، وبالتالي، من الأنسب :"الحديث عن تموقع جديد لتأريخ النضال التونسي ضد المستعمر و"تثويره" حتى يشمل الحقبة البورقيبية كما الحقبة "البنْعلية"، وفي هذه الحالة، يصبح الحديث عن تاريخ الزمن الراهن التونسي أ وإن شئنا التاريخ المعاصر التونسي أفضل من التقوقع ضمن دائرة أضيق، هي تاريخ الحركة الوطنية التي كانت "ملاذا" معتمدا يضمن عدم التطرق إلى بعض المحرمات في العهد السابق."
علمية "التاريخ"... وتسييسه ؟؟؟
ويضيف محدثنا للتوضيح: "إن مسألة إعادة الكتابة هي مسألة مغلوطة في الأساس، لأنه يُفهم منها وكأن الكتابة في تاريخ الحركة الوطنية قد زُيفت أ وزُورت أ وضُخمت..بينما هذا غير صحيح، قد تكون ثمة كتابات صدرت هنا أ وهناك تمجد أ وتنتقص هذا أ وذاك، لكن لا يمكن اعتبارها كتابات تاريخية علمية، والدراسات التاريخية الأكاديمية في الجامعة التونسية والمهتمة بالحركة الوطنية ودولة الاستقلال لم تنقطع أبدا منذ الحقبة البورقيبية، وبالتالي، هي ليست معنية بمثل هذه المسألة". ويرى أن المشكلة تكمن في تكاثر ما يمكن تسميتهم ب"المتطفلين" على التاريخ والذين أساؤوا للذاكرة التاريخية التونسية من خلال تقديم أنفسهم وكتاباتهم على أنها نابعة من صميم علم التاريخ وأنها "حقائق" ثابتة، بينما التاريخ ه وعلم قائم الذات له قواعده العلمية ومناهجه الصارمة تماما مثل أي اختصاص علمي آخر، ومما يعقد الأمور أكثر أن هذه الكتابات أ والآراء :"تعتبر نفسها "التاريخ المضاد" الحقيقي الذي يواجه "التاريخ المزيف" أ و"المحرف"، وقد تُعقد الأمور أكثر فأكثر عندما تُتلقف هذه الكتابات فيُنظر إليها على أنها هي الصواب ودونها ه والخطأ.. الأمر الذي يؤدي بنا إلى الدخول في دوائر مفرغة نحن في الواقع في غنى عنها". ويقول المؤرخ خالد عبيد أن:"هذا يدفعنا للحديث على ضرورة عدم تسييس التاريخ ورهْنه في " أتون " التجاذبات الإيديولوجية أ والسياسية أ والموروث العُقدي الواعي منه واللاواعي على حد السواء، وذلك لأن ذاكرتنا الجماعية مثخونة منذ الفترة الاستعمارية وإلى الآن، بل زادتها الأيام وجعا على وجع فتعرجت روافدها وبات لزاما على المؤرخ أن يتسلح أكثر فأكثر بموضوعيته العلمية والنأي بنفسه عن السقوط في "فخاخ" مؤازرة هذا أ ومعاداة ذاك أ واعتماد التعميم مبدأ، وذلك حتى لا ينجر إلى صب الزيت على النار الملتهبة منها أ والكامنة على حد السواء، وما يعني ذلك حتما من فقدانه لمصداقيته في ظرف ما أحوج التونسيين فيه إلى "حكمة" المؤرخ المتزن.
المصارحة الموضوعية... وهيئة المصالحة
وبابتسامة الارتياح رجح محدثنا أنه حسب اعتقاده: "الوقت قد حان لتجسيم ما دعوت إليه منذ مدة وه وضرورة المصارحة والمصالحة، أي أن نحاول لمْلمْة "جراح" الذاكرة الجماعية للتونسيين ضمن المصارحة الموضوعية والاعتراف بأخطاء الماضي الأليم الذي نريده ألا يعود، وذلك قصد تجاوزها من خلال رد الاعتبار الذاكري والمعنوي لهذا أ وذاك دون السقوط في خانة التشفي والرغبة في الثأر الموروثي التراكمي أ والموروثي الآني على حد السواء، أ والسقوط في معصومية "الضحية " من أجل شيطنة "جلادها". ويؤكد أنه إذا ما تمكنا من تحقيق رد الاعتبار فإننا بذلك نتمكن من تجسيم المصالحة الذاكرية لدى أجيال التونسيين بغاية التطلع إلى المستقبل وتجاوز إرث الماضي الأليم والاتعاظ منه حتى لا يقع تكراره أبدا. ويعتقد أنه لا يمكننا: "الرن وإلى المستقبل بتفاؤل خارج هذه الثنائية، ثنائية المصارحة والمصالحة، وإذا كان ثمة من يرغب في أن "يغرق" في ذكريات هذا الماضي الأليم ويرهن نفسه معه ولا يرى منفذا وملاذا إلا في النهْل منه وإطلاق دعوات يُشتم منها استبطان ثأري فله ذلك، لكن، عليه أن لا يشك للحظة في أنه خارج حركة التاريخ، لأن التاريخ يدفع ويتحرك، ولا يقف ساكنا على أطلال الاستبكاء الهامدة." ولتطبيق هذا التوجه دعا أستاذ التاريخ السياسي المعاصر الى تكوين هيئة يمكن تسميتها هيئة المصارحة والمصالحة أ وهيئة الإنصاف والمصالحة على غرار تسمية المغرب الأقصى، وتتكون من مؤرخين مختصين يتميزون بالموضوعية والاستقلالية ومن بعض الحقوقيين، وتنحصر مهمتها في دراسة ملفات هذا الماضي الأليم وتكون لديها من الصلاحيات ما يخولها الاطلاع على الأرشيف حتى تتمكن من تحديد الحيثيات ومن ثمة المسؤوليات والنظر في مطالب إعادة الاعتبار بعيدا عن أي توظيف سياسي أ وايديولوجي أ وحساباتي أ ومزايداتي، "لأنه إن دخلت إحدى هذه التوظيفات في مهام هذه الهيئة فإن ذلك ينهي في نظري مهمتها على الأقل من جانب مشروعية وجودها، ولا يمكن لأي مؤرخ كان أن يقبل أن يتعامل مع هذه الهيئة خارج هذه الأطر الموضوعية بقطع النظر عن ميولاته." وفي نفس السياق يرج و:" ل ويقع تعميم العف والتشريعي العام حتى يشمل الحقبة البورقيبية أيضا وذلك حتى نعطي صبغة إلزامية لقرارات هذه الهيئة".
الاستقلال وثورة 14 جانفي
وأمام التوجه نح واعتبار تاريخ الثورة التونسية ل14 جانفي كموعد حقيقي للاستقلال، فلا يتفق الأستاذ خالد عبيد مع هذا الطرح ويفسر بقوله:" في الحقبة "البنْعلية"، عانت العلوم الاجتماعية والإنسانية من التهميش وأخص هنا التاريخ بحكم اختصاصي، وفي رأيي، لم تكن المسألة عفوية لأنه ثمة رغبة غير معلنة في تغييب ملكة النقد لدى الناشئة ودفعها لاعتناق "ثقافة" الأقدام حتى تستبعد من ذهنها كل ما يمت بالسياسة من جهة أ وبالأحرى كل ما يتعلق بمعارضة ول ومحتملة للنظام السابق، الأمر الذي راكم معه سلبيات التوجه البورقيبي في قراءة الكفاح الوطني والقائم على الاستفرادية النضالية، فكان أن رأينا أجيالا بأكملها لا تعير اهتماما بتاريخها الوطني ولا تدري حقيقة تضحيات الأجداد والآباء من أجل أن يندحر المحتل من البلاد، صحيح أن الاندحار الاستعماري لم يعقبه توجه نح وإرساء الديموقراطية والحريات، وهذا المعطى بالذات بإمكان المؤرخ أن يضعه في سياقه التاريخي، ويحلل الدوافع التي أدت إلى عدم استكمال استقلال البلاد سنة 1956 من خلال "تحرير" الإنسان التونسي، لكن أن نعتبر أن الاستقلال لم يقع أبدا وأنه تم يوم 14 جانفي 2011 ، فإني أعتقد أن المسألة فيها شطط و"تجاوز" لتضحيات أجيال كاملة من التونسيين منذ سنة 1881 إلى حد سنة 1963 من أجل طرد المستعمر الفرنسي من أراضيها".
تجنب توريط الأجيال
ويرى أنه :"إذا كنا نتفهم أمثال هذه المواقف لدى شبابنا وغيره بحكم ما أسلفنا ذكره، إلا أننا لا نتفهمه لدى من تعد نفسها النخبة وهي التي تدري أكثر من غيرها بحكم تسيسها مدى المعاناة التي كان يعيش تحت وطئها التونسي في زمن الاستعمار, وإرادة الصمود من أجل تحرير البلاد من المحتل، تماما مثل إرادة الصمود التي بانت للتونسيين الآن والتي خلناها قد توارت خاصة خلال الحقبة السابقة، إرادة التحدي من أجل تكريس الحريات والديموقراطية واستكمال ما بدأه الأجداد والآباء في مسار تاريخي طويل بدأ منذ أن توغلت فرنسا بجيوشها الأرض التونسية. ويجدر طبقا للأستاذ عبيد، أن ننظر إلى ذكرى الاستقلال، استقلال سنة 1956، على وقع المراكمة، لا أن نحاول محوه في غمرة الفوران "الثوروي" المزايدي، مع ابقاء مثل هذه المسائل بيد المختصين تجنبا لمزيد توريط أجيال كاملة في متاهات سياسوية، وإن بشكل مغاير عما عايشته سابقا، وإن كان الخاسر الأكبر هنا في كلتا الحالتين هي الذاكرة الجماعية التونسية. والتاريخ كما يراه تراكما وليس بإمكان أي كان أن يعمم، ومن هذه الزاوية، يمكننا أن نعتبر أن فترة النظام النوفمبري هي التي سرعت التاريخ وعجلت بالانتفاضة فالثورة التي نشهدها حاليا، فل ولم يصل هذا النظام إلى أقصى حالات استغلاله للتونسيين واضطهاده لهم، لما تمكنت انتفاضة الأحرار من "الإجهاز" عليه، ولمَا بدأت ملامح التغيير الجذري مع الماضي تبرز طيلة الفترة التي تلت يوم 14 جانفي 2011، كما يمكننا أن نعتبر أن فترة نهاية البورقيبية هي التي عجلت بصعود رجل مثل بن علي بالرغم من أنه من خارج الجهاز الدستوري، لكن "التحديات" المفروضة على النظام البورقيبي آنذاك هي التي حتمت الاستعانة به، أما أن نعمم فنعتبر الفترة البورقيبية هي ذاتها الفترة "البنْعلية" فأعتقد أنه ثمة شطط ومغالاة. يختم المؤرخ والجامعي خالد عبيد بالقول :" إن كل عهد ما أ ونظام ما يحمل في بذوره نهايته، وه والذي "يخلق" من سيعصف به، هذه حتمية تاريخية في نظري، حتمية السيرورة التاريخية أ والزمنية، وبالتالي، إن كل من يدع وللإقصاء والاجتثاث ه والذي سيكتوي به إن آجلا أ وعاجلا، تماما كما اكتوى به خاصة النظام السابق الذي اجتث بينما "ضحاياه" بقوا، هذا ما تعلمته من عظات التاريخ وتوترات الماضي وتقلبات المنزلة البشرية!".