نزار مقني أسئلة كثيرة تخامر العقل الإستراتيجي الإسرائيلي في هذه اللحظات، أسئلة تطبع التصرفات التي تقوم على المستويين السياسي والعسكري في تل أبيب، خاصة مع بداية انتفاضة جديدة في سوريا، وتفجر الوضع على الحدود بين غزة وأراضي 48 المحتلة ونتائج الثورة المصرية، وتغيير الوضع السياسي في الأردن، وكلها تغييرات سياسية عميقة تمس مباشرة بالعمق الإستراتيجي للكيان الصهيوني. "فما الذي ستؤدي إليه الأوضاع في سوريا؟ هل سيكون سقوط الأسد (إذا سقط) فرصة لإسرائيل لتخفيف حدة وطأة جبهة الحرب المباشرة في الجولان المحتل، وفرصة لقص خط إمدادات رئيسي لحزب الله في لبنان، أم العكس هو المرجح؟ وهل أن تغيير الوضع السياسي في الأردن ينبئ بتفجر جديد في غور الأردن (خط التماس المباشر مع الضفة وأراضي 48 المحتلة) وما يحمله ذلك من تغييرات جيوسياسية خطيرة (خط جلب المياه من نهر الأردن، والجبهة العسكرية الكبرى مع إسرائيل)؟ وهل أن تفجر الوضع في القطاع مع تساقط صواريخ غراد والمورتر التي تكيلها المقاومة في غزة على إسرائيل؟ وما مصير المصالحة الفلسطينية؟ وتأثيرها (إن حدثت) على عملية السلام؟ وإلى أي مدى يمكن لتل أبيب أن تصل لترد على هذه التحديات الجيواستراتيجية الجديدة التي أصابت عمقها العربي؟ ولعل هذه الأسئلة الجوهرية أخذت تسبب للإسرائيليين في حالة من عدم الثقة التي أضحت تميز تصرفاتها في الآونة الأخيرة، خاصة وأن الجانب الديبلوماسي الإسرائيلي يعاني منذ إيقاف المفاوضات على عملية السلام، من عزلة دولية أخذت تؤرق الإسرئيليين في أي رد تطمح إليه سياسيا أو حتى عسكريا، وهو ما اتضح جيدا في التعامل الإسرائيلي مع التصعيد الذي اتخذته الأجنحة العسكرية لحركتي حماس والجهاد في القطاع.
ورغم أن ضربات المقاومة من غزة على مستوطنات النقب وعسقلان وأشكول طالت مناطق قريبة بحوالي 20 كم من تل أبيب، إلا أن صواريخ غراد وقذائف الهاون بقيت من دون تأثير هام على الوضع في تلك المستوطنات ولم تتسبب إلا في بعض الهلع في صفوف المستوطنين إذ عادة ما تسقط تلك الصواريخ في مناطق غير مأهولة ولذلك فإن نتاجها لم يسبب إلا في ازدياد قيض الحصار على غزة، ولم تتسبب إلا في حالة ترقب اسرائيلية عسكرية على الحدود، تبعتها استعدادات عسكرية هجومية تخللها قصف بالمدفعية وغارات جوية أدت إلى مقتل 11 من الفلسطينيين في غزة. ولعل تلك الصواريخ التي ضربت قلب أراضي 48 وفرت للإسرائيليين أمرين اثنين: أولهما فرصة للخروج من العزلة الدولية المفروضة عليها أوروبيا وعربيا، وذلك بالتمسك بنقطة الأمن وحماية إسرائيل كحجة ديبلوماسية استعمالها وزير الخارجية الإسرائيلي أفغدور ليبرمان في زيارته الأخيرة لفرنسا ولقائه لوزير لخارجية آلان جوبيه، واستعملها كذلك في الحشد ضد سوريا وإيران بوصفهما الراعيين الأساسين لوجستيا لحركات المقاومة في غزة. ثانيهما حجة سياسية لإسرائيل لممارسة هجوم معاكس على سلطة رام الله وتأكيد مطالبتها بفك رباط المصالحة التي بادر إليها عباس وختمها بوضع حكومة وحدة وطنية كأساس لهذه المصالحة بعد ضغط الشارع في أراضي السلطة الفلسطينية المتآكلة من فرط الإستيطان الذي أكل أرض الضفة من الغور إلى حدود خط الأزرق (ماقبل جوان 1967). إن الإتجاه الإسرائيلي سينحصر في رده على ممارسة الضغط على السلطة الفلسطينية بقطع الطريق نحو المصالحة بنفس الصيغة التي عرضها، وتلك نقطة يمكن أن تضمنها مع التمسك ببند خطر حماس الدانكيشوتي ضد أمنها الداخلي، ولعل ذلك ممكن باستعمال ورقة الضغط الأمريكي على صانع القرار في رام الله.
مصريا، يبدوأن إسرائيل لا تريد أن تثير سخط المجلس العسكري الحاكم في مصر بمغامرة جديدة في غزة وشن عملية واسعة "حذرت منها الخارجية المصرية" بل ودعت في آخر لقاء بين وزير الخارجية المصري نبيل العربي وسكرتير عام وزارة الخارجية الاسرائيلية رافي براك إلى أن "تتحمل مسؤوليتها في رفع الحصار عن غزة". التصرف الإسرائيلي لا يعبر إلا عن انتظار لما ستؤول إليه الأوضاع السياسية في مصر، فالخوف أن تأتي رياح المستقبل السياسي في مصر بما لا تشتهيه أشرعة سفن الحكومة الصهيونية، فالإخوان في مصر يعتبرون قوة سياسية هامة يمكن أن تتدرج لأن تكون المؤثر الرئيس الأول على القرار السياسي في مصر، وفكر الإخوان هو المؤثر الأساسي على فكر حركة حماس في غزة، وذلك يمكن أن يسبب في تطوير القوة السياسية والعسكرية لحماس، وبالتالي فإن وزير التربية الإسرائيلي الذي قال أن عملية عسكرية واسعة في إسرائيل حتمية على المدى البعيد أي بين سنتين إلى 3 سنوات، يؤكد أن آخذ القرار السياسي الإسرائيلي سيتجه الآن إلى اشعال فتيل حرب ديبلوماسية تعمل على أساسها تل أبيب على حشد المجتمع الدولي وخاصة على أوروبا وأمريكا، لفك العزلة الدولية، وهو الهدف الأول قبل التفكير في الحسم العسكري مع حماس في غزة.
سوريا، فإن بداية الإنتفاضة الشعبية ضد نظام الأسد، قد يكون في صالح إسرائيل عسكريا (فك المحور مع إيران، وحلقة الإلتقاء الأساسية مع حزب الله في لبنان) وهذا ما يعني تخفيف الوطأة على الجبهة العسكرية المباشرة في الجبهة الشمالية مع إسرائيل، ذلك ما عبر عنه الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، ولكنه كذلك يطرح تساؤلات عميقة حول "من سيكون على السلطة في دمشق؟"، سؤال يبدو أنه من المبكر الحسم فيه خاصة وأن النظام العلوي في سوريا (البعث) نظام متعسكر، يحكم منذ انقلاب عام 1963، والخوف كالعادة من بروز "إخوان دمشق" كقوة سياسية جديدة على رأس النظام الحاكم في سوريا، في حالة وفاء الأسد بتعهداته بإلغاء حالة الطوارئ، وفتح الحريات السياسية على مصرعيها، وهذا يطرح تساؤلا جديدا أخذت إيران ترقبه بخطورة خاصة وأن سوريا تعتبر خاصرة طهران في منطقة الشرق الأدنى، ولذلك راجت أنباء عن أن إيران قد تسعى لحسم الأمر في سوريا بتدبير إنقلاب جديد يغير الهياكل ويحافظ على النظام، وهذا ما تتخوف منه دوائر المخابرات الإسرائيلية الآن وتفكر فيه بكل جدية خاصة وأن التأثير السياسي خاصة والإستراتيجي لدمشق يمتد إلى حدود غزة مع سيناء.