وكأن لبنان يتلذذ مأزقه ويمعن في تزويقه وتلوينه حتى يبدو أكثر فضائحية وأشد فقوعا. صراع محموم على السلطة لا أحد مستعد فيه للتنازل بين فرقاء تبدأ رؤوسهم في لبنان وتنتهي ذيولهم في عواصم اخرى او العكس. مشكلة لبنان بدأت منذ تشكل كيانه القطري وفق تركيبته الطائفية القائمة كقاعدة لتصريف سياسته. لم ينجح الشرق في رعاية مقومات التنوع داخله واشتق منها ما يؤسس لألغام نائمة مستعدة للانفجار في أيّة لحظة. كان كبت هذا التنوع وسجنه داخل نسق انضباطي ينصهر فيه الجميع في ظل الدولة المستبدة القوية خيار أنظمة عربية عديدة فهمت صعوبة الموازنة بين مدنية منصهرة في كنف التعايش الوطني السلمي وارث من الانشقاقات الطائفية المتصلة بعضها ببعض بشلالات من العلاقات الملتبسة. سوسيولوجيا لم يكن امام نظام بعث صدام حسين من خيار سوى ذاك الذي مارسه من اجل ضمان ديمومة عراق موحد ومنصهر في كتلة وطنية واحدة ما فوق طائفية. هل يدفع لبنان ثمن تنوعه؟! من المؤسف احيانا ان قساوة درس الواقع اشد وطأة من المعاني النظرية السامية، فحرية لبنان كأرض عربية نادرة احتضنت تجربة مهمة في مناحي مختلفة من الحرية، من حرية الاعلام الى حرية التنظّم السياسي الى التداول على السلطة الى مناخ حريّة الفكر والنشر والتعبير، هذه الحريّة لم تحمها تقاليد دولة قويّة ترعى الاختلاف الطائفي دون أن تصبح ناطقة باسمه، كان نموذج الحريّة اللبناني ولايزال مقترنا بنموذج ضعف الدولة ان لم يكن فقدانها بمثل ما عرفه البلد سنوات الحرب الأهليّة او ما يقترب منه الآن. لبنان يطرح على الفكر السياسي العربي أكثر من سؤال محرج من المفيد الانتباه إليه وعدم التغاضي عنه بالهروب الى لغة الشعارات التي لا تعكس رغبة حقيقية في فهم التغيير المطلوب وانجازه مادامت ثابتة على طوباويّتها وطفوليّتها. هل أن أيّة خطوة للتغيير نحو الديمقراطية في العالم العربي لا يمكن أن تمرّ الا عبر اضعاف الدولة؟ مراكز القرار في الغرب، المهتمة بقضايا التحول الديمقراطي فهمت هذه المسألة بناءا على تجربة العراق باعتبارها بناءا جديدا يزيل كل آثار الماضي من أجل انجاز مستقبل ديمقراطي منفصل بشكل جذري عن ماضي البيروقراطية الإدارية التي رعت وقادت دولة الاستبداد السابقة، في العراق بالذات كان مقتل هذه النظرية الخرقاء التي تعكس قصورا سطحيا فادحا في قدرة مقاربة غربية بسيطة على استيعاب شرق غرائبّي معقّد. نقف اليوم أمام النموذج الثاني لفشل هذه المقاربة يختزله لبنان في تفاصيل أزمته الممتدّة في ما وراء أطماع المحيط الإقليمي والدولي لتتصل بهذا البعد المهم في فلسفة التحوّلات الديمقراطية المطلوبة عربيّا. أهم أبعاد الدّرس تتمثل في تقديري أن أخطر ما قد يصيب مشاريع الإصلاح وطموح التغيير الديمقراطي هو أن يضع نفسه على ذمّة نهج إضعاف الدولة كوسيلة لجعل التغيير ممكنا وقابلا للإنجاز. إنّ دروسا دوليّة بليغة في اتجاهات هذه التحوّلات سواء في اوروبا الشرقية أو في بعض المقدّمات العربيّة تؤكّد أن خطأ فادحا قد يرتكبه بعض الديمقراطيين حين يضعون جهدهم في التغيير والإصلاح في سلّة اضعاف الدولة وانهاكها عوض استثمار وسحب قوّة الدولة والمحافظة عليها لفائدة الديمقراطيّة والإصلاح بشكل مراكمة تدريجيّة ومنازعة الاستبداد، هذا الاستثمار من داخل منظومة قوّة الدولة نفسها، تلك التي حتى وان صرّفها الاستبداد أحيانا ضد المجتمع فانها تبقى دوما رصيدا للمجتمع ومكسبا له ما عداه هو الفراغ والفوضى. أمام عبثيّة الصورة اللبنانيّة ألا يشاطرني البعض أن المشهد في حاجة الى دبابّة وطنية مؤمنة بلبنان موحد مستقل وقويّ تتسرّب بإرادة وتصميم من ثكنة الجيش لتضع حدّا للمهزلة!!