نسق إحداث الشركات الأهلية في تونس يرتفع ب140% مقارنة بسنة 2024    أعوان وإطارات المركز الدولي للنهوض بالاشخاص ذوي الاعاقة في اعتصام مفتوح    عاجل/ هلاك ستيني في حريق بمنزل..    القضية الفلسطينية تتصدر مظاهرات عيد الشغل في باريس    في سابقة خطيرة/ ينتحلون صفة أمنيين ويقومون بعملية سرقة..وهذه التفاصيل..    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    زاراها قيس سعيد...كل ما تريد معرفته عن مطحنة أبة قصور في الكاف    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    نهائيات ماي: مواجهات نارية وأول نهائي لمرموش في مانشستر سيتى    لأول مرة في التاريخ: شاب عربي لرئاسة ريال مدريد الإسباني    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    تشيلسي يهزم ديورغاردن 4-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    سعر ''بلاطو العظم'' بين 6000 و 7000 مليم    عيد الاضحى 2025: الأضاحي متوفرة للتونسيين والأسعار تُحدد قريبًا    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    عاجل/ أمطار أعلى من المعدلات العادية متوقعة في شهر ماي..وهذا موعد عودة التقلبات الجوية..    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    معطيات جديدة بخصوص منتحل صفة صفة مسؤول حكومي: الاحتفاظ بكاهية مدير بالقصرين    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    رئيس الجمهورية في عيد العمّال: الشغل بمقابل مع العدل والإنصاف    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الليلة: سحب عابرة والحرارة تتراوح بين 15 و26 درجة    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    تونس: تفاصيل جديدة عن متحيل يتجوّل 10 أيام كمستشار حكومي ويزور إدارات رسمية    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة التونسية قامت في لحظة اهتدى فيها التونسي للحل الراديكالي ضد القهر
فتحي بن سلامة الكاتب والمختص في علم النفس السريري ل«الصباح»
نشر في الصباح يوم 05 - 06 - 2011

حوار : حياة السايب أصدر فتحي بن سلامة الكاتب والطبيب التونسي المختص في علم النفس السريري الذي يقيم بفرنسا ويعمل بجامعاتها (باريس 7) كتابا جديدا بعنوان «فجأة الثورة. قراءة جيونفسانية للإنتفاضة» عن دار سيراس للنشر...
اعتبر فيه أن كل قراءة للثورة التونسية لا تأخذ بعين الإعتبار الجانب النفسي والأخلاقي تبقى قراءة منقوصة. وإذ يقر الكاتب -الذي له معرفة دقيقة بقضايا المنطقة العربية والإسلامية، فقد أصدر عن دور نشر فرنسية معروفة كتبا تعالج قضايا المنطقة- بأهمية العوامل الإجتماعية والإقتصادية ودورها في دفع الشعب التونسي على الإنتفاضة ضد النظام السابق فإنه يعتبر مقابل ذلك أن العوامل النفسية هي الحلقة التي كان لابد من دخولها إلى مسرح الأحداث حتى تكتمل الأسباب التي جعلت من قيام الثورة أمرا محسوما. ما هي القرائن التي اعتمد عليها الكاتب في قراءته الخاصة جدا للثورة التونسية وإذا ما سلمنا بتشخيصه لحالة البلاد ما قبل الثورة وأثناءها فإن السؤال، كيف يبدو له الوضع اليوم وكيف يلوح له المستقبل القريب من وجهة نظر الكاتب والجامعي وبالخصوص الطبيب الذي يملك الأدوات اللازمة للغوص في نفسية البشر فكان الحديث التالي مع الكاتب فتحي بن سلامة الموجود بيننا هذه الأيام بمناسبة صدور كتابه المذكور..

يهتم كتابك الجديد الذي صدر أشهرا قليلة بعد انتصار الثورة الشعبية ببلادنا بالأسباب التي بدت لك حاسمة في قيام الثورة لكن المتأمل فيما ورد في الكتاب من سطور يتوصل إلى أن هذا العمل الفكري لم يولد مع ميلاد الثورة وإنما ربما سبقه جهد كبير وطويل على مستوى محاولة فهم طبيعة المجتمع التونسي؟

نعم لم أنفك أتأمل البلاد والعباد وكنت ولازلت أعتقد أن تونس لها مكانة مهمة في التاريخ ولها شخصيتها المميزة والفريدة من نوعها. لكن للأسف واقعها السياسي في السنين الأخيرة جعلها لا تكون في مستوى ما نتوقع من هذا البلد. لقد عمل النظام السياسي السابق على إلجام الأفواه وتقييد الطاقات. الطاقات البشرية التونسية كبيرة لكنها كانت إما معطلة أولا تستعمل بالكامل. وهو ما جعل التونسي ينتقص من نفسه. أعتقد أنه مع مرور الوقت تقلص شعور التونسيين باعتزازهم بمكانتهم.
ويمكن أن نستخلص أن التونسي أصابه مرض نفسي ناتج عن عدم وجود الفرصة المناسبة لتفجير الطاقة الكبيرة الكامنة لديه. ومن الطبيعي أن يصاب كنتيجة لذلك بحالة اكتئاب التي هي نوع من اليأس والشعور بفقدان الأمل. لكن لما جاءت الثورة أصبح الناس في حالة استعجال كبيرة لتدارك كل ما فات.

ربما أمكن لنا في مرات عديدة ترجمة مفهوم الإستعجال سياسيا واقتصاديا واجتماعيا لكن من موقعك كمختص في علم النفس السريري ماذا يعني الإستعجال عند التونسي اليوم؟

إن حالة التونسي اليوم كحالة الإنسان الذي صعد إلى الجبل واستنشق كثيرا من الأوكسيجين فأصبح يشعر بنوع من الترنح ولم يعد يعرف ماذا يمكن أن يفعل.. إنها حالة عادية وموجودة في كل الثورات. لكن ما يجعلنا ربما نطمئن إلى مستقبل الثورة في تونس أن التونسي لا يؤمن كثيرا بالمثاليات وحتى وإن رفع أحدهم إلى مرتبة المثالية وحتى القداسة فإنه سرعان ما يتخلى عن ذلك وكما رفع الشخص فإنه يسقطه بسرعة وهو ما يجعل أبرز سمة تبدو غالبة على التونسي هي سمة الواقعية.
التونسي واقعي جدا، وكانت واقعية الشباب أمرا حاسما حسب ما بدا لي في قيام الثورة والصورة الإيجابية التي ظهرت عليها في العالم.

ألا تعتقد أن ما تسميه بالواقعية يحمل في داخله ما يمكن أن يشكل خطرا على الثورة. ما يراه التونسي مثاليا اليوم قد يراه عكس ذلك في الغد وهو ما يتناقض مع النضج الذي نطالب به المجتمع اليوم للخروج بالبلاد من حالة اللا إستقرار؟

هناك أمر لا بد من التأكيد عليه. التونسي فقد الثقة في نفسه تحت وطأة الديكتاتورية. الأنظمة الديكتاتورية تستعمل هذا الأمر سلاحا لها فهي وراء سياسة التفرقة وتغييب قيمة التضامن وكل القيم التي يمكن أن تكون مصدرا لوحدة المجتمع وتضامنه لأن في ذلك خطرا عليها.ولا ينبغي أن ننكر أن هناك مرضا موجودا اليوم في تونس يتمثل في فقدان الثقة في النفس وفي الآخر. الأمر ناتج عن طبيعة النظام في حد ذاته. النظام السابق كان ينهب ويسرق على الملإ حتى سيطرت على البلاد أجواء الشك في كل شيء. من الطبيعي أن يكون الشخص حذرا اليوم ولكن لا ينبغي أن يصل الأمر إلى درجة فقدان الثقة تماما.

فقدان الثقة في النفس وفي الكل ألا تراه يهدد بالفوضى وكيف يمكن إن كان الأمر كذلك الخروج من هذه المنطقة؟

علينا أن لا نهمل معطى هاما حدث في تونس. لقد بلغنا مرحلة فقدان الثقة الكاملة في الإنسان الحاكم. معروف أنه من بين مؤسسات الحداثة ما يسمى بالقانون الأخلاقي، والقانون الأخلاقي يعني أن كل من عنده مسؤولية القانون ينبغي أن يتحلى بالنزاهة ويعطي المثل الطيب. الكل بمقتضى هذا القانون الكوني ملزم باحترام القانون لكن عندما يتبين أن حامي القانون هو حراميه فتلك المعضلة الكبرى وينتج عنها آليا فقدان الثقة. لقد فقد التونسيون الثقة عندما وقفوا على عدم احترام القانون من الحاكم قبل غيره من الناس. ولكن هذه الثقة لن تعود إلا بالشرعية والشرعية لن تأتي إلا بالإنتخابات.

في انتظار عودة الشرعية عبر صناديق الإقتراع كيف يمكن للتونسي أن يكون مطمئنا في حاضره وواثقا في المستقبل؟

المشكل أن الإطمئان اليوم صعب المنال.
التونسي في الوقت الحاضر كمن استعاد النور إلى عينيه ولكن النور أبهره إلى درجة أنه لم يعد يرى الأمور من حوله جيدا.. لقد تغير واقع التونسي بالكامل. إنه لا يعرف القوى الجديدة الموجودة على الساحة معرفة كاملة. هناك الكثيرون بين عباد ومنظمات قد خرجوا من الظلام إلى النور وأنا واحد منهم.
لكن ما يدفع الملاحظ على التفاؤل أن الثورة قامت لأن التونسي أصبحت له نظرة عصرية جدا للعدالة والشعب التونسي من بين أبرز الشعوب التي لها نظرة عصرية ومتقدمة جدا للعدالة. يطمح التونسي اليوم إلى العدالة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية وهذه النظرة تتقدم لديه حتى على الدين والهوية. لقد فهم التونسي أن الإنسان كي يكون له مستقبلا لا بد من عدالة نصطلح عليها بالعدالة الأفقية وأعتقد أن العالم العربي سائر في هذا الإتجاه بفضل الثورة التونسية. لقد بلغ التونسي والعربي مرحلة من الفهم جعلته يدرك أن الدين وإن كان جزءا من كيانه وهويته وثقافته فإنه لا يستطيع أن يجد فيه الوسائل الضرورية التي تمكنه من تغيير واقعه. يمكن القول أننا خرجنا من منطق العدالة العمودية ( السماوية مثلا ) إلى منطق العدالة الأفقية (عدالة البشر).

هل يكفي الوعي بهذه العدالة حتى تكون الطريق معبدة لتحقيقها؟

إن التونسي يطالب بهذه العدالة في أقرب وقت لكن العدالة الأفقية صعبة التحقيق لأنها مرتبطة بالواقع الذي لا مكان فيه للكذب. علينا أن نعي أنه أمامنا فترة صعبة جدا. أفهم أن الناس تعبت كثيرا. أفهم كذلك أن الحكومة أمامها عمل كبير وسريع لتقديم أجوبة للناس لكن علينا أن نتفق على أنه لا بد من أجوبة واقعية والإقرار بقيمة عامل الوقت في مثل هذه الظروف.
أما إذا ما تأملنا الواقع فإننا نلاحظ أن التونسي الذي يدرك أنه قام بشيء مهم وحاسم يداخله اليوم الشك في وصوله إلى غايته ومقاومة هذا الشك عمل طويل النفس ومشترك بين الجميع.

ذكرت في كتابك الجديد أن التونسي وعى فجأة وفي نفس اللحظة التي قام فيها محمد البوعزيزي بحرق نفسه بأن الأمور يجب أن تتغير فهل تعتقد أن حركة البوعزيزي كانت بالفعل سببا مباشرا في قيام الثورة في تونس؟

جاءت الثورة فعلا فجأة ولكنها كانت في الآن نفسه نتيجة عمل تاريخي قديم أما طابع المفاجأة فهو يتمثل في تلك اللحظة التي اكتشف فيها التونسيون أنه لا سبيل لمواصلة تحمل الوضع الذي كانوا عليه مدة 23 سنة من حكم بن علي.
أما عن سؤال إن كان انتحار البوعزيزي سببا مباشرا في قيام الثورة فإنه صحيح وغير صحيح كذلك.
البوعزيزي قام بعملية انتحارية وليست عملية الإنتحار في حد ذاتها التي حركت الشارع التونسي وإنما ما بناه التونسيون على عملية الإنتحار تلك.
ليس الإنتحار في حد ذاته الذي حرك الناس وإنما ما فهمه الناس من هذه العملية.
وهو ما يقدم الدليل مرة أخرى على أن الثورات لا تبنى فقط على أشياء من الواقع بل هناك جانب من الأسطورة. المسألة عادية وتذكرنا بنفسية الطفل الصغير. الطفل يضع والديه في مكانة كبيرة ثم تتغير رؤيته لهما شيئا فشيئا ويرتد إليه الواقع فتحدث لديه نوع من خيبة الأمل.. الأسطورة التي تبنى حول الثورة فيها شيء من الطفولة كذلك ونقصد بها الطفولة النفسية. والطفولة النفسية معناها أن الطفولة ترافق الإنسان دائما مهما كبر وهو يعود إليها في حالات الحب والحالات الصعبة.ابن عربي يقول مثلا أن الإنسان الكبير تعود له طفولته كلما لعب مع الإطفال.
الطفولة الخيالية ترافق كل الأعمال القوية عند البشر.
والتونسيون نسجوا أشياء كثيرة من وحي خيالهم حول محمد البوعزيزي وقاموا باستنتاجات ليست لها علاقة مباشرة بالرجل.

ألا يقودنا هذا إلى نفي مقولة الصدفة على الثورة التونسية وأن الشعب التونسي كان مهيأ للثورة ولم يكن ينتظر سوى إشارة معينة كي تندلع؟

الثورة التونسية ولو أنها جاءت بصفة مفاجأة لكنها ليست نتيجة الصدفة. أعتقد أن التونسيين كانوا بصدد البحث عن مخرج ما وعن حل ما وعن أية إشارة تلوح لهم في الافق.
لقد وعى الشعب التونسي بنفسه مقهورا في وقت من الأوقات وعندما وقف على حركة البوعزيزي اكتشف أن الراحل عثر على الحل الراديكالي ضد القهر. لذلك قلت أن الثورة التونسية ثورة أخلاقية. الناس تماهت مع إحساس البوعزيزي باليأس وبالقهر وبنت عليه أسطورة كاملة.
إن ظهور بن علي رمز القهر أمام الفتى الذي أصبح بفعل النيران التي التهمت جسده عبارة عن مومياء في صورة واحدة كان حاسما أيضا في تحريك عجلة الأحداث. لقد كان لظهور بن علي في تلك الصورة وهو ذليل أمام الرجل الملفوف في الضمادات تأثيرها على الناس فقد رأوا في وقوفه أمام الفتى البوعزيزي وكأنه اعتراف بالذنب.
صورة كانت حاسمة ولها معنى في أنفس الناس. أحيانا يكون لجملة واحدة أو صورة واحدة وقعها في حياة الشعوب. وهو ما يجعلني أؤكد مرة أخرى على أن الثورة التونسية كانت ثورة أخلاقية. صحيح للعوامل الإجتماعية والإقتصادية والسياسية دورها. فقر كبير ونظام يعتمد الكذب كسياسة له. عائلات تعيش في خصاصة وكأنها في مرحلة ما قبل التاريخ لكن الوعي بذلك كان العامل الحاسم في الأمر.
لقد ارتكب النظام السابق أخطاء فادحة من ذلك مثلا أنه تلاعب بفكرة القيمة الأخلاقية في التعامل مع الملك العام. لكن العبث مع نظام بن علي وعائلته أصبح هو العادة وليس الإستثناء. النهب والسرقة أصبحت هي القاعدة.

هل أعطى الشعب التونسي في مرحلة ما من تاريخه الإنطباع أنه أصبح يهاب الحاكم إلى درجة جعلت الحاكم يستبيحه في كل شيء؟

غباء السلطة التي كانت قائمة وجشعها هو الذي أطاح بها في نهاية الأمر. لقد تحولت السلطة عند بن علي إلى متعة بلا حدود تماما مثل المدمن على المخدرات. والسلطة فيها نوع من المخدرات. لذلك لابد أن يكون الحكم الجديد في بلادنا محكوما بحدود ولا يجب بأي حال من الأحوال أن تكون السلطة مجتمعة في يد واحدة.

هل يمكن أن نسلم حقا بأن 23 سنة من الحكم الظالم لم تفرز أية قوة معارضة ثقافية أم سياسية كانت؟

كان النظام يظهر قويا ويبدو رهيبا باعتماده على القمع وآلته الأمنية وبحزبه القوي بملايين المنخرطين. لقد تحقق تقدم اقتصادي لكنه لم يشمل الجميع. كانت هناك ثروة كبيرة ولكنها لم تشمل الكل.
النخب كانت مكبلة ولم يكن مسموحا لأحد بالظهور في الإعلام إلا رئيس الجمهورية. لقد أحدثت السلطة فراغا في كل شيء حتى أنها أي السلطة لم تعد ترى شيئا.
الديمقراطيات الغربية من جهتها ساندت هذه النوعية من الأنظمة لأنه ظهر لها بأنها ستحفظها من الإسلاميين ولا ننسى أن بن لادن وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 قد أجلت عهد الديمقراطية في بلداننا لعقد كامل.

كيف يمكن أن نفهم تمكن الخوف من الجماهير إلى درجة تكبلها عن أية حركة احتجاجية ثم تنتهي الجماهير بنزع الخوف تماما وينقلب خوفها شجاعة؟

الخوف من الجماهير حالة قديمة كان قد شخصها «سبينوزا» الذي يقول أن الحاكم يخاف من الجماهير والوسيلة الوحيدة التي يراها ممكنة للتخلص من ذلك تتمثل في إدخال الرعب في الجماهير.
وفي تونس ظنوا في أنفسهم أنهم أدخلوا الرعب في نفس التونسيين واعتقدوا أنه بات من الممكن لهم أن يقوموا بكل شيء على الملإ.
لكن وهم الجهلة لم يفهموا أن نقمة الناس كبرت عليهم وأن أمرهم سيحسم إن آجلا أو عاجلا.

يشير كتابك الجديد إلى أنك وبالإضافة إلى الشواهد الفلسفية اعتمدت على كم كبير من الوثائق من مصادر مختلفة.

نعم لدي كم كبير من الوثائق وقضيت وقتا طويلا أمام الإنترنيت ومن غريب الصدف أنني منذ سبتمبر سنة 2010 صرت أزور تونس حوالي ثلاث مرات في الشهر الواحد بعد أن كانت زياراتي إلى بلدي لا تتجاوز المرات القليلة في العام. كنت خلال شهري ديسمبر 2010 وجانفي 2011 مثلا بتونس. وكنت في كل مرة ألتقي بالناس وأطرح عليهم بحكم عملي كثيرا من الأسئلة.
لقد سارعت بإصدار كتابي الجديد لأنني أردت أن أقول أن العامل النفسي هو الوحيد الذي يفسر جانب المفاجأة في الثورة التونسية.
إن العامل النفسي هو العامل الأخير المتمم للثورة. وقد قال القرآن الكريم «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم «. ونصيحتي للتونسيين أن يتمسكوا بذلك.. ثورة تونس كانت فريدة من نوعها لأن سببها الأخير نفسي وأخلاقي وفيها رغم دم الشهداء والموتى والجرحى شيء كبير من الجمال.يبرز ذلك في الشعارات وفي الكلام الذي قالته الناس وفي ذلك التضامن الكبير بين التونسيين.
إن الثورة التونسية التي أذهلت العالم كشفت عن قوة الخلق التي تظهر عند شعب يريد التغيير.

هل لك أن تحدد لنا اليوم موقعنا بالضبط من الثورة حسب تحليل علم النفس؟

نحن نوجد اليوم تحديدا فيما يسمى ب» لا بسيكوز بوست أنسيرإكسويونال « وهو نوع من الهذيان بعد الثورة يتأتى من فقدان وقتي وجزئي للعلاقة بالواقع. نحتاج لعمل كبير كي يعود الإنسان إلى مرحلة العلاقة بالثورة التي هي علاقة بواقع البلاد. أي تلك المرحلة التي لا تكون الثورة عملية نرجسية بل في علاقة بالواقع.
علينا أن نحذر في هذا السياق أنه لا يجب التعميم.
المهم أننا إذا ما قارنا بين ما قبل الثورة واليوم فإننا نقول أن الحالة الصحية للتونسيين هي اليوم أفضل بكثير مما كانت عليه خلال حكم بن علي. كان الأمن مثلا يبدو مستتبا لكن مستقبل البلاد كان مرهونا وقوى الناس مكبوتة. صار التونسي في وقت ما يطرح السؤال حتى حول وجوده. أنا شخصيا بلغت مرحلة من اليأس ومن اللاأمل حتى أنني أقلعت عن الكتابة أما اليوم وقد تحررنا بفضل الثورة فإنني أنوي أن أواصل الكتابة حول الثورة ومشروعي القادم سيكون حول تونس ما بعد الثورة.

كيف يبدو لك افق البلاد السياسي؟

يتفق اليوم التونسيون على مجموعة من المبادئ من بينها مبدأ الحرية الذي لا جدال فيه وكذلك مبدأ العدالة وأعتقد أن الشعب التونسي سيتوجه إلى التعددية الحقيقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.