على الحدود بين البلدين، ترجل مجدي من الحافلة. كان يمشي مرتبكا بين البوابتين التونسية والليبية المتقاربتين غير مصدق أنه قد تطأ قدماه التراب التونسي دون أن يصيبه أذى. اتجه ناحيته شاب كان يقوم بصرف العملة للعابرين، مسك بيده وقال له : وكأنني أعرفك.. ربما رأيتك قبل الآن... !! لم يكن مجدي يعلم أن الشاب الذي أمامه تونسي وأنه تجاوز أخيرا بوابة راس جدير فسأله بحذر: قل لي قبل كل شىء أين أنا الآن؟ أجابه الشاب : انت على التراب التونسي.. انظر هاهو ذا العلم التونسي في الأعلى.. الفرحة لا يمكن وصفها. فرحة لا تسعها الأرض ببراريها وتلالها وصحرائها اللامتناهية. فرحة تعانق السماء بشمسها وقمرها ونجومها. خلع قبعته وسجد. سجد شكرا لله الذي استجاب لدعائه المتواصل الأيام والليالي، وسجد ليلتحم جبينه بأرض الوطن، وأي وطن؟ من قال أن للوطن حدود ومساحة ومسافات؟ من قال أن للوطن اسم وعنوان؟. هذا هو الوطن، تماما كذاك. هو في تونس أو لعله في مصر. لا يهم. المهم أنه على أرض الوطن. بر للأمان.. هذا هو تعريف الوطن باختصار. رفع رأسه وصرح بكل ثقة وقوة ودون خوف: أنا مجدي عبد الرحيم، أنا صحفي مصري قادم من سجون ليبيا. مجدي عبد الرحيم هلالي مصور صحفي بالمكتب الإعلامي المصري رؤيه. متزوج وأب لبنتين. دخل إلى ليبيا مع زملائه يوم 31 مارس 2011 بطلب من قناة الام بي سي لتغطية الأحداث هناك. على الحدود المصرية الليبية كان الجانب الليبي أقرب إلى الفوضى حيث اختفت الإجراءات الإدارية المعتادة ليحل محلها استمارة يملؤها المسافر دون تثبت في صحة ما ورد فيها من معلومات. بعد أيام قليلة من العمل في المناطق الشمالية الشرقية لليبيا، التحق صحبة زميليه حسن زيتوني ومحمد الشويهدي، بساحة المعركة التي كان يدور رحاها بين الثوار الليبيين وكتائب القذافي. على مشارف أجدابيا، حيث كان الصراع يحتد بين الطرفين، تبدأ رحلة اعتقال مجدي عبد الرحيم وبقية الفريق من طرف الكتائب. وهذه تفاصيل تجربته كما رواها لنا في لقاء خص به جريدتنا أياما قليلة بعد مغادرته السجون الليبية.
الكمين
يقول مجدي : يوم الاربعاء 6 أفريل، الساعة تشير الى حوالي الثانية بعد الظهر. كان تصويرنا هذه المرة داخل الميدان. لم يكن محيطنا يوحي بالطمأنينة قط ولم يكن للثوار جيش منظم : طفل يحمل قنبلة هنا و مدنيون يحملون الرشاشات هناك وآخر يملك مضادا للطائرات أو.ارب ج أو غيرها من الأسلحة الخطيرة. تجاوزنا البوابتين الأولى والثانية في الجبهة من ناحية الثوار وعندما وصلنا البوابة الثالثة طُلب منا عدم التقدم أكثر. توغل اللواء عبد الفتاح يونس ولم يسمح سوى لمصور الجزيرة بالتقدم معه. كان جيش الكتائب في الجهة الأخرى من الجبهة غير ظاهر للعيان والمرتفع الذي أمامنا يمنعنا من تحديد موقعه لكننا رأينا دخانا متصاعدا عن بعد فأصر زميلي حسن على التقدم قليلا علنا نتمكن من التصوير. وتمكن من إقناع الشاب الليبي الذي كان يقلنا بسيارته النصف نقل لمتابعة السير. اعترضتنا سيارة إسعاف كانت منذ وقت قليل إلى جانبنا. طلبنا من سائقها إرشادنا لمدى أمن المنطقة. شجعنا على التقدم دون تردد قائلا : تقدموا فالطريق أمان.. ولم نتقدم بعض العشرات من الأمتار حتى توقفت سيارتنا واستدارت سيارة الإسعاف خلفنا. لم أفهم في البداية ما يجري فقد كنت في خلفية السيارة المغطاة بغطاء من نوع باش وكان حسن ومحمد بجانب السائق. أحسست بحركة غير عادية فنظرت الى يسار السيارة، كان زميلايا يتمرغان أرضا والعساكر يفتشانهما وعسكري يصوب بندقيتة إلى رأس السائق ويكيل له الضرب وكل أنواع السب والشتم دون أن ينسى تلقيبه المتكرر له بالجرذ. فهمت حينها أنه كان كمينا نصبه لنا سائق سيارة الإسعاف لاستدراجنا نحو الكتائب. لم ينتبه العساكر لي فوجدتني ألفت انتباههم بحذر معلنا وجودي كي لا يفاجؤوا بي فيطلقوا النار عشوائيا. صوب أحدهم بندقيته إلى رأسي فقلت له: اهدأ فما أنا سوى صحفي. قال لي: لو أضفت كلمة أخرى لقتلتك... ثم أضاف : واحمدوا الله أن القذافي لم يأمر بقتل الصحفيين.. ابتسم مخاطبي ابتسامة عريضة قبل أن يستدرك : على فكرة، أنا مستغرب.. أنا معرفش هما بقولو القذافي وحش لي ! ما الراجل عسل اهو!
لحظات الرعب
انقطع مخاطبي عن الحديث لحظة وبسط يده أمامي ليريني آثار ضرب على ظهر أصابعه قال لي أنها آثار ضربة بمؤخرة بندقية. ثم أضاف : أخذونا إلى سيارتهم مع الضرب و الإهانة بعد أن سلبونا كل معداتنا وأوراقنا ونقودنا واتجهوا بنا نحو البريقة. في البريقة أدخلونا إلى شركة حولها الظرف الاستثنائي إلى مقر للكتائب بعد أن غادر هؤلاء مقراتهم الرسمية المعرضة لإمكانية القصف. وضعونا محمد وأنا في غرفة صغيرة ومعنا مغربي وسوداني بعد أن أخذوا زميلي حسن. فجأة دخل علينا رجل وبين يديه ساطور، فقفزت إلى ذاكرتي تلك الصورة التي نقلتها بالكاميرا منذ أيام قليلة، كان أحد الجرحى بمستشفى بنغازي يشكو من بتر أصابع يده حيث خلت أن رصاصة أصابته لكنه أعلمنا أن الإصابة لم تكن سوى نتيجة لضربة ساطور متعمدة. وبدأت أتخيل الأفظع والأبشع ورأيتني ومن معي نقطع بين أيدي الرجل. كنا تقريبا راكعين أرضا معتمدين على أيادينا ورؤوسنا إلى الأسفل عندما مر صاحب الساطور قرب محمد وصوب ضربته ناحية يده. كان محمد أكثر خفة وسحب يده بسرعة. استدار نحوي ورفع الساطور في اتجاه قدمي ومن ألطاف الله أن دخل علينا شيخ ليطلب منه أن يتوقف. بقينا بعد ذلك ما يقرب الربع ساعة في رعب تام، لا نتجرأ على رفع رؤوسنا لنرى ما يحدث حولنا ولا نعرف ما قد يأتينا في أية لحظة بل كنا نتوقع الأسوأ كل حين. كانت تلك اللحظات ثقيلة ودمرنا نفسيا بالكامل.
سجن الأغنياء
هناك لقينا معاملة حسنة أحيانا وقاسية أحيانا أخرى لكنهم أخذوا السائق الذي كان معنا ولم نعد نسمع عنه شيئا بعد أن وجدوا بسيارته مادة الجيلاتين المتفجر. قدموا لنا أكلا وماء وكذلك سجائر ثم التحق بنا حسن وأُعْلِمنا أنه سيتم الإفراج عنا في الغد. كان من المفترض أن تأتي سيارة لتعيدنا من حيث أتينا وفعلا توفرت لنا السيارة لكن اتجاهها لم يكن سوى مدينة سرت حيث احتجاز آخر وانتظار آخر وأمل آخر وسيارة أخرى ويتكرر سيناريو الإفراج لنجد أنفسنا باتجاه طرابلس. كان معنا في تلك الرحلة صحفيون آخرون معتقلون أحدهم إسباني واسمه إيمانويل وآخر أمريكي واسمه جيمس و صحفية أمريكية اسمها كليرا. كان يبدو جليا على الأمريكيين آثار الضرب الشديد حتى أن آثار الدم كانت ماتزال على ملابسهما. وقيل لنا أيضا أن صحفيا من النيجر كان برفقتهم قتل مباشرة عند اعتقاله. في طرابلس ترددوا بنا على أكثر من مقر مخابرات. في آخر المطاف عصبت أعيننا وأخذنا إلى مبنى. فوجدنا أنفسنا في غرفة كبيرة فيها عشرة أسرة بدورين، مغسلة، حمام ونافذة. كانت الغرفة أجمل من أن تكون في سجن عادي فقيل لنا أن المكان كان سجنا للأغنياء حتى أن بعض الليبيين كانوا يسمونه السجن المفتوح. وبدأت التحقيقات. يوم السبت 9 أفريل تم الإفراج على زميلي حسن زيتوني ثم في وقت لاحق كان من المفترض أنهم أفرجوا عن محمد الشويهدي لكننا إلى حد اللحظة لا نعلم عنه شيئا. وبقيت وحيدا في غرفة السجن فتضاعف توتري. كنت أخشى النوم وأنتظر كل لحظة أن يدخل أحدهم إلي فيقتلني.
دفعت الغرامة.. بيت بيت
كان مجدي عبد الرحيم، كما أخبرني، في نفس السجن الذي اعتقل فيه الصحفي التونسي لطفي غرس مراسل قناة العالم في كنداوالتونسي لطفي المسعودي، والموريتاني أحمد فال ولد الدين والفلسطيني عمار الحمدان من فريق قناة الجزيرة وقد ظفروا ببعض فرص للتلاقي.. المكان واحد لكن التجارب تتنوع بالتأكيد. يواصل محدثي وهو يتأمل مشموم الياسمين أمامه: في يوم أخذوني كالعادة للتحقيق. تحقيق دام عشر ساعات بدأ بالسماح لي لأول مرة من رؤية وجهي محققي وانتهى باتهامي بالتعامل مع المخابرات المصرية. وبعد أيام دخل علي ضابط وأمرني أن أدير وجهي للحائط ثم سمعت صوتا انهرت حالما وصلتني نبراته، كان صوتا حقق معي في البداية وكنت شعرت وقتها بمدى نبل صاحبه. كان لطيفا متفهما وعندما طلبت منه أحد أمرين، أن أموت أو أن أعود لعائلتي وعدني بأن أقدم للنيابة خلال 3 أيام. وقد فعل. في المحكمة وجهت لي تهمتان : الدخول غير الشرعي للتراب الليبي وممارسة مهنة دون ترخيص. تطوع محام ليبي للدفاع عني لكنني كنت بيني وبين نفسي أخاف البراءة قدر خوفي مما قد يحدث لي بين مركز الترحيل وراس جدير. كان خوف مجدي مبررا بالتأكيد مادامت السيناريوهات والحكايات المفزعة تتعدد على الطريق الممتدة بين طرابلس والحدود التونسية. تصفيات وجرائم ضحاياها مصريين وتونسيين كأن يقتل تونسي لأنه فقط أصيل سيدي بوزيد، لأنه فقط ينتمي لمنطقة اندلعت منها الثورة أو أن يقتل مصري فقط لأن قاتله مقتنع أن عشرة آلاف جندي مصري يحاربون مع الثوار. يضيف مجدي : وحكمت بخمس سنوات سجنا مع وقف التنفيذ وغرامة مالية قدرها 3 آلاف دينار ليبي. أطلق سراحي يوم الإربعاء 8 جوان عندما تقدم لتسلمي ليبي من طرابلس كان مسجونا معنا قبل أن يطلق سراحه ليظل يزورنا باستمرار للاطمئنان علينا وليمدنا بالماء. أخذني هذا الصديق إلى بيته في حي متواضع، حي من الواضح أنه يعاني الفقر والخصاصة والحرمان وزادت الظروف أيامه صعوبة. عندما ألححت في معرفة من دفع مبلغ الغرامة فتح النافذة وقال لي : أنظر إلى هذه البيوت، كلها دفعت لك... فبكيت...وألححت في إعادة المال لأصحابه خرج مجدي عبد الرحيم من السجن فساعدته ناشطة فلسطينية من الهلال الأحمر للاتصال بالسفارة المصرية التي تكفلت بترحيله إلى تونس.. بر الأمان.