إنّ عمليّة «براكة الساحل» التي كانت تهدف إلى ضرب الجيش في خيرة قادته كفاءة وسلوكا إنّما كانت غايتها الدنيئة هي النّيل من هيبة الجيش ومن اعتباره الذي كان يرتفع شأنه عند كلّ تدخّل. فالواجب الآن هو أن تُرفع هاته المظالم عن هؤلاء بردّ الاعتبار لهم وإسدائهم التعويضات المادّية. ويشمل هذا التدارك أيضا الجيش الوطني الذي ينتمون إليه والذي يفخر به كلّ الشعب وذلك بردّ الاعتبار رسميّا لهاته المؤسّسة التي نتوقّع أن تقدم لها ثورة 14 جانفي كل الورود بل زهرة ...الياسمين. ومن ناحية أخرى، فلابدّ للعدالة أن تأخذ مجراها تجاه من تواطأ في هذه الدسائس وتجاه من انساق فيها بحماس غير مطلوب وذلك حتى لا تتكرّر هذه الفعلة أبدا. إن حلمي هو أن يتمّ ردّ الاعتبار هذا في موكب احتفالي رسمي تسوده كل الهيبة والوقار المطلوبين: نأمل كلّنا أن يتم ذلك خلال مهرجان يهتزّ فيه العلم ويمتشق فيه السلاح وتعزف فيه الأهازيج حتى يشعر هؤلاء الضباط وضباط الصف بأن شرفهم رفيع وأن كرامتهم منيعة. إنّ ردّ الاعتبار هذا يكون في الحقيقة إعزازا للجيش بأسره. إنّ أغلبيّة مواطنينا ورجال السياسة عندنا بل وجلّ حكّامنا بالأمس واليوم لا يدركون كنه الشأن العسكري لأنّه قلّ وندر منهم من التزم طوعا بضوابطه: 1- الجهوزية التامة 24 ساعة /7 أيام / 12 شهرا/. 2- الرضا بالحرمان من بعض الحرّيات ولعلّ أهمّها الحقوق السياسية، على عكس دول كثيرة، فهو لا ينتخب رغم أنّه يدفع الضرائب. 3- إخضاع خطيبته للتحرّيات البوليسيّة قبل أن يرخص له في عقد القران عليها. 4- الحرمان من حق الإضراب والقبول بأن يقوم رؤساؤه مقام النقابة. 5- عدم مغادرة حدود الحامية بدون ترخيص كتابي ولو بعد أوقات العمل أو خلال العطلة الأسبوعية أو العطل الرسميّة. وهل من ضرورة للإشارة إلى أن كل أصناف الحرمان هذه غير معوضة. ولعلّ الوقت مناسب الآن للتفكير في هذا الشأن وللذين يرغبون في تنظير الوظيفة العسكرية بوظيفة الإدارة العمومية. فإني أقول لهم أنّه لا يصحّ مقارنة ما لا يقارن لأن الضابط هو الكائن الوحيد في العالم الذي يرخص له عند الضرورة، قيادة رجاله...إلى الموت. وفي نفس السياق علينا أن نذكر بالدّور التاريخي المناط بالمركزية النقابية العتيدة، الاتحاد العام التونسي للشغل، في هذه المرحلة الحرجة ببلادنا. أليست مركزية محمد علي الحامي وفرحات حشاد؟ فلا ينبغي لمسؤوليها أن يترددوا في حث العمال على استئناف نشاطهم وتشغيل المصانع وعلى مضاعفة الجهود لإنقاذ اقتصادنا الذي ألحقت به الأحداث أيّما ضرر. فالتاريخ سوف يحاسبهم ويدينهم لو فكّروا أو حاولوا ولو للحظة ارتهان البلاد ظنّا منهم أنّهم حزب سياسي أو إن هم حاولوا فرض وجهة نظرهم. دأبت كلّ جيوش العالم، عندما تريد شحذ عزائم رجالها والرفع من معنوياتهم، على البحث في تاريخها العسكري أو في سجلات قدماء مقاتليها علّها تجد مآثر استثنائية أو أعمالا بطولية تكون رموزا ونماذج يتداولها الجنود وأجيال الإطارات اقتداء بها. وفي تاريخ جيشنا ذي الخمسة والخمسين عاما عيّنات كثيرة. منها على سبيل المثال: أوّل اشتباك جدّي بالمريج قرب عين دراهم في 31 ماي 1957 بين جيشنا الفتي الذي لم يتجاوز الأحد عشر شهرا، وبين الجيش الفرنسي الذي كان يلاحق داخل التراب التونسي مقاتلين من جيش التحرير الوطني الجزائري. وقد نجم عن هذا الاشتباك استشهاد تسع عسكريين وحرس وطني وجروح قاتلة أصابت السيد خميس الحجري الكاتب العام لوزارة الشؤون الخارجية الذي كان يقوم بمهمّة تفقد للاّجئين الجزائريين بتونس وكان مرفوقا بالمدير العام للأمن الوطني آنذاك السيد الباجي قايد السبسي. ومن المؤسف أن هذه المعركة البطولية لم تكن موضوع بيان أو مهرجان لتخليد الذكرى أو حتى تذكير داخل الجيش سواء على المستوى الوطني أو الجهوي. وكذلك كان النسيان هو مآل معارك وأعمال قتاليّة كثيرة تميّز فيها رجالنا الذين ضحّوا فيها بحياتهم على غرار ساقية سيدي يوسف (8 فيفري 1958)، ومعركة رمادة (25 ماي 1958) وحرب بنزرت (19 جويلية 1961) وقضية قفصة (27 جانفي 1980). وهل لنا أن نتذكر أبطال معركة بنزرت الخالدة وهم الأحد عشر ضابطا شابا (ملازمون أوّلون آنذاك) الفرشيشي ابن عيسى بوجلابية الشيخ. -عباس -عبد الرحمان- لجود تاج الخريجي البنزرتي بوهلال والذين لم يبق منهم الا ستة على قيد الحياة وهم الذين أنقذوا شرفنا بصدّهم الجيش الفرنسي الغاشم ومنعه من إخضاع واحتلال كامل مدينة بنزرت. وهذا ما سمح للراحل المنجي سليم ممثلنا لدى الأممالمتحدة من التعامل مع ممثل فرنسا على قدم المساواة أمام مجلس الأمن. ولكن حتى هؤلاء الضباط فإن معظمهم كان لا يدعى لحضور احتفالات الجلاء كل 15 أكتوبر ولا لذكرى تكوين الجيش الوطني كل 24 جوان- فهل من تفسير لأسباب مثل هذا السهو والنسيان أو الإهمال وهل قدّر أحدهم مدى الأثر المحبط على الضباط الشبان، إطارات اليوم وقادة الغد؟ إني أشعر أن الجمهورية الثانية سوف تقطع مع هاته الممارسات المشينة و بأن الجيش الوطني بكل مكوّناته سوف يتبوأ الموقع الذي يليق به في المشهد الاجتماعي والسياسي ببلادنا. وامام كل هذه الأحداث التي تمر بها بلادنا بعد الثورة المباركة من مشاغل ومطالب اجتماعية وتصدع في العلاقات ومصاعب بالحدود الشرقية نتيجة الثورة الليبية ومحاولات اندساس من طرف المجموعات الارهابية فإن اولى الاولويات هو الذود عن حرمة الوطن والدفاع عن سلامته والمحافظة على اختياراته وعلى أمن المواطنين والحفاظ على ممتلكاتهم. وتباعا لذلك فإني اعتقد أنه من الضروري والأكيد والمتأكد جدا اليوم قبل غد هو تعزيز وحدات الجيش الوطني المنتشرة حاليا على كامل تراب الجمهورية وعلى الحدود الشرقية. وحتى تكون هذه التعزيزات ذات جدوى وفاعلية فلا بد أن تكون بأعداد هائلة لتيسير التناوب بين الأفراد وسد الثغرات وتمكين القيادة من احتياطي محترم علما وأن هذا ليس بالعسير علينا إن التجأنا الى التعبئة العسكرية باستدعاء الضباط وضباط الصف والجنود الذين وقع سراحهم في السنوات الأخيرة. و من جهة اخرى وأمام هذا النوع الجديد من الأخطار يتحتم علينا تمكين الجيش من الوسائل والمعدات الضرورية للقيام بمهامه على احسن وجه لردع كل من تحدثه نفسه بالإساءة لوطننا. كلنا يعرف أن الأسلحة المتطورة من دبابات وطائرات ومزنجرات هي ثمينة وثمينة جدا. لقد اختارت بلادنا في الماضي سياسة تسليح متواضعة. لكن تغيرت الظروف في مناخ جهوي عديم الوضوح. ونتيجة لذلك لا بد من توفير الحاجيات المتأكدة لقواتنا المسلحة حتى يمكنها الدفاع على الوطن وتوفير الاستقرار للبلاد والسلامة للمواطنين. إن كل شيء يهون من اجل تونس. لكن حتى لا نثقل كاهل ميزانية الدولة في هذا الميدان، فلما لا نقوم بحملة تضامنية عدة أشهر للتبرع من أجل تسليح الجيش؟ وإني أذكّر أن الشعب التونسي قام بمثل هذه العملية في الأشهر الاولى من استقلال البلاد حيث تبرع التونسيون رجال ونساء، كل حسب رغبته، بالمال والمصوغ وقد نال هذا العمل التضامني نجاحا باهرا. فهي فرصة سانحة لمساندة الجيش الوطني الذي هو سور للوطن يحميه أيام الشدة والمحن. أتمنى أن تجد هذه الفكرة الدعم الشامل من كافة الشرائح من كل الاحزاب السياسية والنقابات وهياكل ومنظمات المجتمع المدني. فهذا الوقت هو مناسب ليبرهن كل التونسيين على تعلقهم بهذه الأرض الطيبة التي أبهرت العالم بثورتها المجيدة ثورة الحرية والكرامة. إني واثق من أن الشعب بأسره مستعد لدفع الغالي والنفيس من أجل عزة تونس ومجدها واستقلالها. ثم أليس من الطبيعي أن يشارك جيشنا الوطني والجمهوري هذا الجيش الذي حمى الشعب وثورته بمواقفه المشرفة وبسلوكه المثالي، أليس من الطبيعي أن يشارك مشاركة فعالة في مختلف اللجان التي أسست وأوكل إليها رسم معالم الكيان الوطني الجديد وهي لجان في جلها غير ذات طابع سياسي؟ وحتى إذا اعتبرنا أن إطارات الجيش المباشرين مشغولين بمهامهم الأساسية التي لا تقل عن مهام هذه اللجان شأنا بل قد تكون اكثر منها تعقيدا، فإن ضباط الاحتياط أو الضباط المتقاعدين الذين وإن ارتدوا اليوم الزي المدني فهم الذين كانوا بالأمس رفاقا وقدماء ومعاوني الضباط المباشرين، فيمكن دعوتهم وتكليفهم بتمثيل المؤسسة العسكرية صلب هذه اللجان الموقرة. إن كفاءات هؤلاء الضباط وتكوينهم وتجاربهم كفيلة بإثراء الحوارات وبالأداء المميز لإنجاح هذه المهمة التاريخية. ومن ناحية أخرى، فإذا كان الأفراد المباشرون من ضباط وضباط صف وجنود لا يشاركون في الانتخابات لاعتبارات مفهومة، فإن الشأن قد يختلف بالنسبة للعسكريين المدعووين، هؤلاء المواطنون الشبان الذين استجابوا لنداء الواجب لقضاء مدة الخدمة الوطنية. فهل من المعقول أن يترتّب عن تلك الاستجابة حرمانهم من حق دستوري، حق التصويت؟ وإني أحسب أنه من واجبنا، نحن القدماء، أن نثير مثل هذه المسائل التي نعتبرها ذات أهمية بالغة بالنسبة لمستقبل ومآل بلادنا لأن رفاقنا من الضباط المباشرين المتولّين للقيادات العليا للجيش يتجنّبون الخوض في هذه الأمور مراعاة لواجب التحفظ ولشيء من التواضع والتكتم والحياء. إن حلمي هو أن تكون ثورة 14 جانفي، ثورة الشعب والشباب، هذه الثورة التي احتضنها ودعمها جيشها، جيشها الوطني والجمهوري، هذا الأنموذج الجديد من الثورة، ثورة بلا حزب سياسي ولا زعيم ولا تنظير، هذه الثورة «بمذاق تونسي» والتي فعلت فعل كرة الثلج، إن حلمي أن تؤشر هذه الثورة تاريخ الإنسانيّة، وأن تسم كلّ أشكال الطغيان وأن تجسّد الحريّة والديمقراطية وأن تكون مثالا وقدوة. إنّنا نحن قدماء ضباط الدورات الأولى نحن الذين غادرنا هذه المؤسسة الكبرى منذ عشرين أو خمسة وعشرين عاما، نحن الذين رأيناها تولد ورأتنا نكبر، نوجه لهذه المدرسة الفريدة للنظام والانضباط والتضحية وبذل النفس، مدرسة الكفاح والوطنية، نوجه لجيشنا الوطني الذي تتساوى فيه خصال الصمت والنجاعة وكذلك التكتم والحضور نوجه له رسالة تقدير وامتنان وافتخار وتوقير. كما نوجه لقادته المتميزين، أحرّ تهانينا لما تحلى به رجالهم من سلوك فائق وكما نوجه لهم خالص شكرنا لتميزهم ولحفاظهم على القيم الكبيرة التي تركها لهم قدماؤهم «الإخلاص للوطن والوفاء للنظام الجمهوري». لقد غطى هذا الزخم من الخواطر فترة ستين عاما، إنّما هي ومضة برق في تاريخ بلادنا ولكنّها مدّة طويلة، في حياة كائن بشري: من الملحمة البورقيبية التي سمحت لبلادنا بنيل الاستقلال بأقل التكاليف، إلى فترة إشعاع بورقيبة الذي بالرغم من الأخطاء السياسية المرتكبة، سوف تترك سماتها على تاريخ بلادنا، لأنه كان بحق زعيما ، أسّس الدولة التونسيّة العصرية وأصدر مجلة الأحوال الشخصيّة، وفرض التعليم المجاني على الأطفال والفتيات، من تلك الملحمة إلى فترة هزال الأسد الهرم في سنوات 1980 بفعل الشيخوخة والمرض. وجاءت بعد هذه المرحلة، الآمال العريضة التي فتحها بيان 7 نوفمبر 1987 والتي سرعان ما اتضح أنّها محض مغالطات وخداع جسمتها ازدواجية خطاب بن علي منذ 1992 والنهج الديكتاتوري الشمولي منذ سنة 1999 والسقوط في الهاوية بزواجه من ليلى الطرابلسي وانتهاء بهروبه المشين في 14 جانفي 2011 تحت ضغط ثورة الشعب والشباب. * كاهية رئيس أركان جيش البر الأسبق