لقد اهتم الرأي العام التونسي بالوضع الليبي اثر الاحتلال الايطالي سنة 1911 ونلمس ذلك من خلال الصحافة التونسية وهو ما يدخل ضمن التضامن بين الشعبين الشقيقين والجارين ومما أعطى لهذا التضامن الدفعة القوية وجود الجالية الايطالية بالبلاد التونسية التي كانت تتفاعل بحماس مع ما يجري على الأراضي الليبية وهو ما كان مثيرا لقلق التونسيين فما هي مواقفها من مختلف المسائل الليبية آنذاك وكيف تناولت الغزو الايطالي لليبيا 1- الاستثمارات الإيطالية استعملت إيطاليا لتحقيق أغراضها الاستعمارية عدّة أساليب منها الرحلات الاستكشافية فضلا عن استفادة الايطاليين من الرحلات التي قام بها غيرهم من الرحالة الأوروبيين خلال القرن كما استعملت البعثات التبشيرية والنشاط الثقافي فأسست المدارس والكنائس ونشرت الجرائد و في نفس السياق شجّعت هجرة الإيطاليين إلى طرابلس بهدف إيجاد قاعدة ديمغرافية تعتمدها عند الحاجة فارتفع عددهم من 612 سنة 1905 إلى 819 سنة 1911 كما قامت من جهة أخرى بمحاولة الهيمنة على الاقتصاد الليبي من خلال تشجيع الاستثمارات والمستثمرين فتمكّن بنك روما سنة 1907 من فتح فرع في طرابلس ثم تعزّزت فروعه في المدن الرئيسية الأخرى . وقد استثمر بنك روما في العديد من المجالات منها مجال المواصلات البحرية، إذ أحدث خطا ملاحيا بين طرابلس ومصراطة وفي المجال الصناعي أين أقيم معمل ميكانيكي ومحجر ومعمل لصناعة الورق و معصرة لزيت الزيتون كما اشترى آلاف الهكتارات من الأراضي وأقرض تجارا طرابلسيين بفوائض مرتفعة كما أنشأ مطبعة وأصدر نشريه أسبوعية. وما يلفت الانتباه هنا أنّ الصحافة التونسية حذّرت من التوغّل الاقتصادي ومن عواقبه الوخيمة ومن ذلك نشرت جريدة «المشير» مقالا يحذر من مغبة سيطرة إيطاليا على طرابلس بواسطة استثمارها ومشاريعها الاقتصادية ولاحظت كثرة المصارف والمعامل والمناجم، فالقادم إلى هذه الإيالة يتصوّر بأنها إيطالية . وفي عدد آخر من نفس الجريدة يتوجّه مديرها الطيب بن عيسى بموعظة للطرابلسيين كي يغلقوا الباب أمام الاستثمارات الإيطالية ويتنبّأ بأن نتائجها ستكون سلبية ويصرّح «أنّ إيطاليا ستسيطر على طرابلس ومن ثمّة سترسل أبناءها الذين سينشرون الموبقات ويقتلون الطرابلسيين جوعا وأنّ أعمالهم في تونس كافية بأن تكون درسا مفيدا لإخواننا الطرابلسيين كي يعرفوا كيف يقاومونهم . كما تصدت الصحافة التونسية للحملة الصحفية التي قامت بها الصحف الإيطالية وفي هذا الصّدد حذرت جريدة «الصواب» من التدخل الإيطالي في طرابلس الغرب . ونفس المنحى كان لدى جريدة «المشير» التي اعتمدت على الصحافة العثمانية لتفنيد ادعاءات وأكاذيب الصحافة الإيطالية ، إذ حلّلت أسباب غزو إيطاليا وعلى رأسها عدم تلبية رغباتها ويتمثل ذلك في عدم تلبية رغبات إيطاليا في احتكار كامل المشاريع الاقتصادية ومنح جزء منها لشركة ألمانية، وفي هذا السياق تنبّأت جريدة المشير بحرب بين الدولة العثمانية وإيطاليا وأكّدت على أنّ الهزيمة ستكون من نصيب هذه الأخيرة وأشارت إلى قدرة الجيش العثماني على التصدّي وكبح جماح الطموحات . لقد اهتمت الصحافة التونسية بالمسالة الليبية قبل البدء الفعلي للغزو الايطالي في خريف سنة 1911 و هو ما يندرج ضمن تهيئة الرأي العام التونسي للتضامن مع الليبيين والاهتمام بقضيتهم ولاشك ان اهتمامها سيزداد خلال الحرب وهذا ما يمكن التأكد منه خلال الفترة اللاحقة إلى بداية سنة 1912 2- الغزو الإيطالي : أ- أسبابه : في إطار الحركة التوسّعية التي قامت بها الدول الاستعمارية والتي أخفت دوافعها الحقيقية وفي الآن ذاته سعت لخلق ذرائع لتحقيق مشاريعها، ادّعت إيطاليا أنّ رعاياها يتعرّضون لصعوبات وعراقيل من الولاّة العثمانيين خلال بعث مشاريعهم الاقتصادية وفي هذا الاتجاه نلاحظ بأنّ جريدة «الصواب» كانت تفند هذه الادعاءات وتؤكد أن إيطاليا ليس لها حدود مشتركة مع طرابلس وأنّ مشاريعها الاقتصادية إذا قورنت بدول أخرى تعتبر قليلة ولاحظت بأنّ بنك روما لا يمثل سوى مصرف صغير بعد تأسيس المصرف الزراعي الدولي الذي تمّ تهميشه . وفي هذا الصّدد كانت جريدة «الاتحاد الإسلامي» تكشف الأسباب الحقيقية للغزو فأكّدت على التنافس الاستعماري ومضاعفات احتلال المغرب الأقصى والتقارب الألماني العثماني وضعف الأسطول البحري العثماني وانعدام الحصون في طرابلس وعدم وجود حامية عسكرية قادرة على الرّد على العدوان الخارجي . مع الإشارة إلى أنّ جريدة «المشير» استنتجت بأنه لا يوجد هنالك سبب سوى «شهوة الفتح والتغلّب وامتلاك أقصر جسم من الخلافة العثمانية» . و كما تستغرب من ادعاءات إيطاليا بنشر المدنية والحضارة بطرابلس متسائلة عن طبيعة المدنية التي تتمثل في سفك الدماء واغتصاب حقوق الغير وسلب أموال الضعفاء. وما أثار استغرابها أكثر أن كلّ الملاحظين يؤكدون على أن صقلية وسردينيا وجنوب إيطاليا هي من أكثر الشعوب الأوروبية جهلا وهمجية وتوحّشا . كما ان جريدة «الصواب» كانت تفند ادعاءات إيطاليا بنشر المدنية وتتساءل عن المدنية التي تأمر بقتل الإنسان وبأكل لحمه وتصويب القنابل والمدافع نحوه كي تنشر أشلاءه وتزهق روحه . ب- صدى الغزو الإيطالي: ّ ونددت كل الصحف التونسية بصنيع إيطاليا ووصفته بشتى النعوت واعتبرت سلوكها «حدثا مهينا للقرن العشرين» وفي هذا الإطار تطرّقت جريدة «الصواب» إلى هذا الغزو حيث صرّحت بأن إيطاليا فاجأت العالم بأسره بوقاحتها ونذالتها ممّا يدلّ على ضعف عقلها وقلّة ثقتها بنفسها وأنها ليس لها مصالح اقتصادية هامة بطرابلس تدافع عنها وأن سرعة إعلانها للحرب سببه خوفها من وصول المساعدات إلى طرابلس . واستنكرت جريدة «الاتحاد الإسلامي» ما قامت به إيطاليا فقالت : «نحن بوصفنا مسلمين نستنكر عمل إيطاليا ونعتبره أفظع جناية ارتكبت في القرن العشرين وأنه لصوصية وخيانة وعار يلحق الإنسانية» . وفي عدد آخر وصفته بالخدعة والظلم والعدوان وصرّحت بأن ما اقترفته إيطاليا ظلم وجريمة واضحة لا يمكن تفسيرها بأي حال وتصف جريدة «الصواب» صنيع إيطاليا بأنه عنوان من عناوين الغدر والخيانة . ونفس المنحى نجده لدى جريدة «الزهرة» التي اعتبرته دليلا على عدم فقه الإيطاليين وفهمهم للسياسة الدولية . وفي عدد آخر نلاحظ أنها توجهت بالنّصح لإيطاليا ودعتها للعدول عن مغامرتها وعدوانها وطلبت منها الجنوح إلى الصّلح لكي لا تخسر مصالحها الاقتصادية بطرابلس . وقد وصفت جريدة «المشير» عمل إيطاليا بأنه مخالف للمواثيق الدولية وفي الآن نفسه تعتبره تعدّ وخرقا لمعاهدتي «باريس» و «برلين» اللّتين تنصّان على حفظ كيان الدولة العثمانية . أما جريدة «الصواب» فقد وصفت سلوك إيطاليا بأنه سلوك عدواني وتتساءل كيف تجرّأت على نكث وخرق المعاهدات وعدم مراعاة حقوق الدول . 3- المعركة الصحافية إلى جانب الصحافة العربية كانت تصدّر صحافة أوروبية فرنسية وحتى ايطالية كانت لها مواقفها المغايرة من الغزو الايطالي لليبيا ومن تلك الصحف لا تونيزي فرنساز « و «الدبيش تونيزيان» « و «لونيوني» (الوحدة) « وقد تصدت لها الصحافة التونسية كما تصدت للصحف الصادرة بأوربا و في نفس الوقت « اهتمت بما كانت تنشره الصحف الأوروبية والعثمانية وتترجم مقالاتها للمساندة الدولة العثمانية ويمكن ان نستشهد في هذا الإطار بالمقال الذي أخذته الزهرة عن لوطان الباريسية الايطالية لقد حلّلت الخلفيات التاريخية للمطامع الإيطالية في طرابلس الغرب وذكّرت بالمساعي الدبلوماسية الإيطالية ومذكّراتها مع ألمانياوفرنسا وجملة الاتفاقيات مثلما حصل بين فرنسا وإيطاليا سنتيْ (1902-1900) واتفقتا على الاعتراف المتبادل بمصالح فرنسا بالمغرب الأقصى وإيطاليا بطرابلس الغرب . و تنبّأت بالصعوبات التي ستجدها حيث صرّحت بأنّ إيطاليا إذا صمّمت على غزو طرابلس فإنها ستجد طريقا وعرة تترصّدها فيها صعوبات كثيرة . وواصلت جريدة «الزهرة» على هذا المنوال بنقل المقالات المتعاطفة وكانت تنتقد وتفند كلّ الأخبار المعادية للدولة العثمانية. ّوقد كانت كل الصحف التونسية تنحو المنحى ذاته ونلمس ذلك من خلال تصديها للصحف الموالية للغزو الإيطالي ومكذّبة ما كانت تنشره من أخبار حيث تعتبرها مجرّد افتراءات ليس لها أساس من الصحة. و قد طعنت جريدة «الصواب» في الأخبار التي نقلتها عن جريدة «الدبيش تونيزيان « حيث كانت هذه الجريدة قد عبّرت عن مساندتها للإيطاليين بطرابلس متبجّحة بمناصرتهم وشامتة ومتشفية في الدولة العثمانية . وفي هذا السّياق كتبت جريدة «الصواب» أنه من واجب «الدبيش تونيزيان» أن لا تجرح عواطف التونسيين المخلصين للدولة العثمانية وفي الآن ذاته اعتبرته سلوكا طائشا يتّصف بالرعونة وقلّة الثقة بالنفس وهذا الشعور نفسه كان لجريدة «الاتحاد الإسلامي» التي اعتبرت في إحدى افتتاحياتها بأن التونسيين مستاؤون من الجرائد الفرنسية التي تناست واجب الضيافة وأنها تطبع في بلد إسلامي ومع كل هذا تهاجم العثمانيين أخوة التونسيين وترجو من الصحف الفرنسية عدم كتابة عناوين جارحة لقلوب التونسيين . ونجد هذا الإحساس لدى جريدة «المشير» التي قالت بأن كلّ صحف العالم تندّد بسلوك إيطاليا ما عدا الصحف المتحاملة على الإسلام مثل الصحف الفرنسية الصادرة بتونس التي استحسنت صنيع إيطالي وتفسّر تأييد العدوان مادام صادرا عن المسيحيين وموجها ضد المسلمين . لقد كانت الصحف التونسية تطعن في الأخبار التي تنشرها الصحف الفرنسية والإيطالية وتعتبرها كاذبة وأنّ هذا السلوك اعتادت عليه هذه الصحف لتملأ بها أعمدتها . ولاحظت بأن هذه الصحف تلطف الأخبار السيئة المتعلقة بهزائم الإيطاليين وتفتري على القادة والجنود العثمانيين كتصريحاتها بان كثيرا من الضباط العثمانيين فرّوا إلى تونس وأن العرب يحبون الإيطاليين ويكرهون العثمانيين. وفي هذا السياق لاحظت جريدة «الزهرة» أن الهدف من نشر هذه الأخبار الزائفة هو تهدئة روع الإيطاليين واعتبرت تهجير 600 مواطن من طرابلس تأييدا لهذه الأخبار الكاذبة، ولاحظت بأنّ الطرابلسيين كانوا يعيشون في أمن ولا يهددون أي إنسان ولا يطلبون العون من أي كان وبدون سبب تتعرض بلادهم إلى غزو عسكري يقتل الصغار والنساء والشيوخ ويحرق المنازل والواحات ويدمّرها، فهل أنّ من يدافع عن وطنه ينعت بالتمرّد والعصيان . وواصلت جريدة التونيزيان في هذا المنحى في نقدها لأخبار المصادر الأجنبية من بينها ما أوردته الجريدة الإيطالية «لا ستامبا» التي ادعت بأن مراسل «تايمز» وجد صعوبة في أداء مهمّته وأن الجيش العثماني في حالة يأس. وقد فندت هذا الخبر وأكدت بأن المراسل موجود بتونس ويكذّب هذه الادعاءات ويصرّح بأنه وجد كل الاحترام وحسن المعاملة والقبول الحسن والمساعدة في أداء مهمّته وهو يشيد بخصال القادة العثمانيين. *رئيس جمعية البحوث والدراسات لاتحاد المغرب العربي