بقلم: المولدي الشاوش إن التاريخ الطويل الذي عرفته الإنسانية على مدى الحقب التاريخية البعيدة والقريبة، علمنا ولقننا دروسا لا تمحى من الذاكرة الفردية والجماعية، لأن هذه الدروس من العناصر الأساسية الفاعلة والموغلة بالشعوب إلى اليقظة والنهوض، وتحرير الإنسان من القوالب الموروثة والمتحجرة، والتي ساهمت في بؤسنا الثقافي والاجتماعي والسياسي، وخاصة تلك الشعوب المقهورة، التي قدر لها أن تسوسها وتحكمها طُغمة باغية وفاسدة، فمن الطبيعي ومن جبلة الإنسانية أنها تفزع وتضج، كلما تسلط عليها قهر أو إرهاب، مادي أو معنوي، وقد تسكن لهذه المعاملات الشاذة ردَحا من الزمن، لسبب أو لآخر، لكنها في آخر المطاف، لا بد لها من المقاومة والمقارعة والنضال واثبات الذات، وهذا لا يتحقق إلا بانتزاع الحقوق السليبة من المغتصبين، والانحياز بها إلى المصالح العامة، التي تختفي معها المصالح الحزبية الضيقة، التي تعزل الشعب عن المساهمة في تقرير مصيره الذي يطمئن اليه، بعد الجدب المريع الذي لاقاه. لأن التسلسل التاريخي، إذا تابعناه في كل مكان وزمان، ندرك من خلاله، أن الإنسانية عانت العناء الفاحش، من حكامها المتسلطين والفاسدين في هذا الوطن أو ذاك. يقول العلامة ابن خلدون : ( صاحب الدولة عندما يكون مُخربا لما كان سلفه يؤسسون، وهادما لما كانوا يبنون، وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه، ولا يكون لها معه برء، إلى أن تنقرض) المقدمة ص 176 ط بيروت وما حكمة الله من بعث الرسل والأنبياء، إلا من أجل رفعة الإنسان، والارتقاء به من الفكر المادي المحدود، إلى التعالي بهذا الفكر إلى المنطلقات الجادة وخدمة الأوطان، حسب القوانين العادلة، وسنن البر الشاملة. قال تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات الآية 13. فكل ما ترشَح به النفوس من نبل وإيثار واحترام لحقوق الإنسان، ونكران للابتزاز والتسلط، وباختصار شديد لجميع قيم الخير المحببة إلى النفوس، فهي كلها مستمدة من التجارب الإنسانية التي عرفت شرع الله السماوي في كل عصر ومصر، وإلا كيف نرى هذا الإنسان الموغل في جاهليته واستبداده ؟ يركن بين عشية وضحاها، ويصبح ذا مشاعر نبيلة، ويعمل جاهدا لكل ما يوفر الأمن والدفء والسعادة للإنسان. هذه حقائق رأيناها ماثلة أمام أعيننا سواء في الماضي البعيد، أو اليوم، من أولئك الذين لامست نفوسهم هذه الدقائق الدينية، التي أعطت ثمارها، وخلصت الإنسانية من الأنانية المفرطة التي هي سبب كل بلاء وكرب. قال تعالى: ( ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) سورة القصص الآية 77 فالفساد الذي استشرى في عالمنا العربي، سببه فساد الأنظمة التي نصبت نفسها من اجل عشق السلطة والتسلط والابتزاز، لا من أجل الصالح العام، ونسوا أو تناسوا قيمنا الدينية التي ترفض صنيعهم جملة وتفصيلا، ومع ذلك نرى هؤلاء الرؤساء في المناسبات الدينية، يلوذون بالمساجد مهللين مكبرين بكل جلال ووقار، وهم يستمعون لهذه المسامرة الدينية أو تلك، والتي تمجد السلاطين السائرين بالأمة إلى سواء السبيل !!! ومن هنا نفقت سوق التملق والتأييد الكاذب من البطانة الفاسدة المحيطة بهم مركزيا وجهويا ومحليا. ولا نستثني العديد من المفكرين، الذين باعوا ضمائرهم وذممهم للشيطان بأبخس الأثمان، ونامت عيونهم عن الحق المبين، ولم يعارضوا الطغاة الفاسدين، المبددين للمال العام، والشعوب المقهورة تعاني أسوأ الحالات المعيشية ضيقا وتعاسة، وتمادوا في الضلال والاستبداد والترف الفظيع. يقول احد فلاسفة التنوير الفرنسي مونتسكيو Montesquieu : ( إن الترف مجلبة لفساد الجمهورية بنوعيها، فهو في الديمقراطية، يصرف الناس عن حب الوطن، وفي الارستقراطية يجعل النبلاء يجرون وراء أطماعهم الشخصية فيعم البلاء.) فالترف الذي مارسه حاكم تونس المخلوع ومافيته النوفمبرية ببلادنا، فاق كل الإحصائيات والتوقعات، وشل كل قنوات التنمية بالبلاد، وانعكست آثاره الخطيرة والمدمرة على الإنسان وفي كل الولايات، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا..وأدخل الفزع في النفوس التي ما عاد لها أمل في إصلاح المعوج من حياتنا !! ومن هذا المنطلق: يجب على المواطن التونسي أن يثبت ذاته، بعد هذه الثورة المباركة على الظلم، وأن يقف في المستقبل، حارسا يقظا، ومحاربا جسورا للفساد، في كل المستويات الإدارية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. وبكل قسوة، لأننا سوف لن نخطو إلى الآفاق الرحبة والواعدة التي ترقى بنا وتدفعنا نحو التقدم والازدهار المنشودين، ما دام عنصر الفساد قائما وشائعا وذائعا. من اجل هذا وكل هذا رأينا الشعوب العربية في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسوريا تثور على الحكام الفاسدين والمتسلطين، الذين كرسوا القهر والاستبداد والفساد شعارا لعديد العقود، إذ تحملت هذه الشعوب المقهورة، التضحيات الجسيمة، فسالت الدماء الزكية، وأزهقت الأرواح زمن الاستعمار أولا، ثم تحت نير حكام الاستقلال الفاسدين ثانيا. فالثورات إذن، هي التعبير البليغ والرد المفحم من الشعوب، ضد حكامهم المستبدين، وكأنهم بصنيعهم هذا، يريدون أن يحركوا النفس التي لحقها الوهن والتواكل والخمول، حتى تنهض من كبوتها، التي لازمتها طويلا، فتقاوم، وتقتحم المجهول والمحذور، وتنفض عنها غبار السنين، لتستقبل عصرا جديدا، لا يضيق بأي فكر حر، يريد أن يعبر عن هموم الشعوب، وتوديع عصر القهر، والفكر الواحد المطارد للرجال الأحرار وسجنهم وإبعادهم. فالشعوب العربية المناضلة تلقت الصدمات العنيفة والمكهربة من حكامها وأجهزتها القمعية المتشعبة، فصبرت وصابرت، واستطاعت هذه الشعوب بصلابة عقيدتها الوطنية قًلب الموازين لصالحها، وأسقطت العروش الفاجرة التي حكمتهم لأكثر من خمسين سنة. نعم قلبنا الصفحة القاتمة، واستبدلناها بصفحة نقية ناصعة. والأجمل من هذا، أن هذه المرحلة الجديدة تتطلب منا نفَسا طويلا من التواصل والتحابب بين المواطنين أفرادا وتنظيمات سياسية بمختلف أطيافها، وأيديولوجياتها، من أجل بناء الوطن من جديد على ركائز صلبة، لا تؤثر فيها الزوابع والتوابع. أما إذا انقسمنا وتشرذمنا واختلفت الأهواء، فإن مستقبل الثورة سوف يكون قاتما وكارثيا لا قدر الله، ودون زيادة شرح، لأن الساحة الوطنية المفتوحة اليوم شاهدة على ما نقول، فالحذر الحذر من النكوص على الأعقاب وإجهاض الثورة، من اجل الكراسي من ناحية، ومن أخطار الثورة المضادة من أجنحة الردة الداخلية، والقدامى والجدد، والقادمة من وراء البحار، والمتحصنة بتدفق الأموال المشبوهة، كما لا ننسى تلكم الأحزاب العديدة التي غزت الساحة الوطنية، والمعدلة جينيا من رحم التجمع المنحل الذي جرب فخاب وخان وأفسد البلاد والعباد. لذا على الثوار أن يتحلوا بمزيد اليقظة التامة والفطنة، حتى يصونوا ويحافظوا على ثورة الشعب، وألا يفرطوا فيما حققته الجماهير التونسية من مكاسب رائعة تفوق الخيال، لأن جيوب الردة منتشرون في كل مدينة وقرية وريف كما أسلفت، يتربصون الدوائر ويحاولون إشعال فتيل الفتنة هنا وهناك، وإحياء النعرات القبلية والعروشية، سعيا منهم وراء التفتت والتشظي لوحدتنا، وغاب عنهم أن هذا الفكر القاصر ودعناه، منذ أكثر من خمسين سنة وأصبح في خبر كان. وعملهم المفضوح هذا لا يزيد التونسيين إلا تلاحما وقدرة فائقة في بناء الذات، ونشر قيم الكرامة وحقوق الإنسان، لإنارة سمائنا، التي تلبدت بالسحب القاتمة لثلاثة وعشرين عاما من الحكم النوفمبري المطلق، الذي حرمنا وعزلنا عزلا عن المشاركة في القرار والرقابة.