تونس - الصباح: تستمد دولة القانون في تونس ركائزها القانونية من منطلق دستوري، وذلك في الفصل 5 من الدستور، الفقرة2 "تقوم الجمهورية التونسية على مبادئ دولة القانون والتعددية وتعمل من أجل كرامة الإنسان وتنميته الشخصية." ويعكس الدستور التونسي المبادئ التي يقوم عليها المشروع المجتمعي للتحول في مبادئ دولة القانون. ومن أركان دولة القانون في تونس العهد الجديد إحداث المجلس الدستوري الذي يحتفل حاليا بمرور 20 سنة على إحداثه، وقد أحدث بمقتضى أمر صادر في 16 ديسمبر 1987، ونظم بمقتضى قانون 18 أفريل 1990. ثم أدرج صلب الدستور في 6 نوفمبر 1995، وأصبحت آراؤه ملزمة لجميع السلط العمومية في 2 نوفمبر 1998. كما وسعت صلاحياته بمقتضى تعديل الدستور في 1 جانفي 2002. فماهي أهم المراحل التأسيسية والقانونية والدستورية لإحداث المجلس الدستوري التونسي وماهي تركيبته ومهامه ومجالات عمله.؟ بادر رئيس الجمهورية باعتباره الضامن لاحترام الدستور (الفصل 41 الفقرة الأولى من الدستور) إلى ترسيخ علويته وذلك بإحداث المجلس الدستوري أسابيع قليلة من تحول السابع من نوفمبر وهو ما رفع البلاد إلى مصاف الديمقراطيات الحديثة فتدرجت بصفة منهجية إلى تكريس قيمها. وقد شهد إحداث المجلس الدستوري ثلاث مراحل أتت متسارعة ومتقاربة زمنيا في فترة امتدت من سنة 1987 إلى سنة 2002 تاريخ آخر تعديل دستوري تدرج فيها المجلس من مكانة الهيئة المحدثة بأمر ترتيبي إلى مكانة المؤسسة الدستورية المستقلة لها قول حاسم وملزم. مرحلة ترتيبية وتم خلال المرحلة الأولى لإحداث المجلس التي تعتبر مرحلة ترتيبية إحداث هيئة استشارية تسمى "المجلس الدستوري للجمهورية" وهي هيئة لا تتمتع بالشخصية القانونية والاستقلال المالي وتحمل المصاريف الخاصة بها على اعتمادات الوزارة الأولى، وذلك بمقتضى الأمر الترتيبي عدد 1414 لسنة 1987 مؤرخ في 16 ديسمبر 1987. والذي يتيح للمجلس الدستوري النظر في مشاريع القوانين التي يعرضها عليه رئيس الجمهورية وذلك لغرض إبداء الرأي في مطابقتها للدستور وهو رأي غير ملزم ويرجع لرئيس الجمهورية تقدير الأخذ به أو تركه (كليا أو جزئيا) وباعتبار الطبيعة الاستشارية للمجلس تكتسي مداولاته صبغة سرية ويقتصر تبليغ آرائه على رئيس الجمهورية دون سواه كما يعين جميع أعضائه الأحد عشر بمن فيهم رئيس المجلس بمقتضى أمر. المرحلة القانونية وقد مثلت المرحلة الثانية من تأسيس المجلس المخاض الحقيقي الذي مهد للمرحلة الدستورية إذ أسند القانون عدد 39 لسنة 1990 المؤرخ في 18 أفريل 1990 للمجلس الدستوري الشخصية القانونية وجعل ميزانيته ملحقة ترتيبيا بالميزانية العامة للدولة في باب ميزانية رئاسة الجمهورية. كما وقع تخفيض عدد أعضائه من 11 إلى 9 أعضاء بمن فيهم رئيس المجلس يعينهم رئيس الجمهورية بمقتضى أمر. ومن أهم الإضافات التي أتى بها قانون أفريل 1990 نذكر منها صلاحية تفسير الدستور إذ أصبح المجلس يتمتع صراحة بهذه الصلاحية بعد أن كانت تمارس مواربة. إضافة إلى وجوبية عرض مشاريع القوانين على المجلس من قبل رئيس الجمهورية وتشمل هذه الوجوبية مجالا محددا سلفا باعتبار مكانتها في هرم النظام القانوني وأهمية المواضيع التي يؤطرها وجانبا يتعلق بمحاور لها صلة بالحريات وحقوق الإنسان. من الإضافات الأخرى لقانون 1990 وجوبية تعليل رأي المجلس الدستوري للآراء التي يصدرها وأن يبلغها إلى رئيس الجمهورية دون سواه. ورفع تقرير سنوي حول نشاط المجلس إلى رئيس الجمهورية مشفوعا بآرائه واقتراحاته. المرحلة الدستورية أما المرحلة الأهم من إحداث المجلس الدستوري فهي المرحلة الدستورية، فمنذ سنة 1995 شهد المجلس تحولا تدريجيا متواترا وعميقا بوأه مكانة المؤسسة الدستورية وأسند له صلاحيات دعمت استقلاليته ونفاذ آرائه بفضل التعديلات الدستورية المتتالية على غرار التنقيح الدستوري لسنة 1995 الذي ارتقى بالمجلس إلى المرتبة الدستورية إذ أفرد له الدستور بابا مستقلا ينظمه ووسع من حالات العرض الوجوبي عليه لتشمل مشاريع القوانين المعروضة للاستفتاء والمعاهدات المتعلقة بالاندماج المغاربي وهي المعاهدات التي يمكن أن يترتب عنها تحوير للدستور. وبمقتضى التنقيح الدستوري لسنة 1997 أضحى للمجلس مهمة البت في تنازع الاختصاص بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية تبعا لتحديد مجال كل من القانون والسلطة الترتيبية العامة. وضمانا لعلوية الدستور أضفى التنقيح الدستوري لسنة 1998 صبغة الإلزامية على آراء المجلس الدستوري لتشمل جميع السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية بالنسبة لحالات العرض الوجوبي وذلك دون المساس بصلاحيات مجلس النواب ودون تعارض مع مبدا تفريق السلط ودون تشكيل سلطة رابعة تعلو السلطات الثلاث للدولة. التنقيح الدستوري لسنة 2002 أما التنقيح الدستوري لسنة 2002، فقد أسند مزيدا من الصلاحيات للمجلس الدستوري في مجال الرقابة الدستورية الوقائية كما خول له صفة القاضي الانتخابي وأعاد تنظيمه ليدعم حياد أعضائه واستقلاليتهم فأصبح المجلس بمقتضى هذا التنقيح ينظر في دستورية إدراج بعض الأحكام التي صدرت في شكل قانون ضمن أحكام ترتيبية وكذلك دستورية الأنظمة الداخلية لمجلس النواب ومجلس المستشارين قبل العمل بها. كما ينتصب المجلس بصفة قاض انتخابي للبت في صحة الترشح لرئاسة الجمهورية ويعلن عن نتائج الانتخابات الرئاسية وينظر في الطعون المقدمة إليه كما يبت في الطعون المتعلقة بالانتخابات التشريعية. ومن الصلاحيات الأخرى التي منحها تعديل 2002 للمجلس الدستوري أن يراقب صحة عمليات الاستفتاء ويعلن عن نتائجه بقرار بات وملزم لا يقبل الطعن، كما منحه صلاحية معاينة شغور منصب رئيس الجمهورية في حالات الفصل 57 من الدستور ويقر الشغور النهائي بالأغلبية المطلقة لأعضائه. ويبلغ تصريحا في ذلك إلى رئيس مجلس المستشارين ورئيس مجلس النواب الذي يتولى فورا مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه 45 يوما وما أقصاه 60 يوما. وإضافة لدعامة الكفاءة والخبرة المتميزة كشرطين أساسيين لتعيين أعضاء المجلس وذلك منذ إحداثه إلى اليوم، رسخ تعديل 2002 استقلال أعضائه التسعة من خلال مراجعة طريقة تعيينهم وتحديد مدة العضوية إذ يعين رئيس الجمهورية أربعة أعضاء بمن فيهم رئيس المجلس وعضوان يعينهما رئيس مجلس النواب وذلك لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد مرتين، وثلاثة أعضاء بصفتهم تلك وهم الرئيس الأول لمحكمة التعقيب والرئيس الأول للمحكمة الإدارية والرئيس الأول لدائرة المحاسبات. كما نص التعديل على حالات التنافي إذ أنه لا يمكن لأعضاء المجلس ممارسة مهام حكومية أو نيابية ضمانا لاستقلال المجلس الدستوري تجاه السلطتين التنفيذية والتشريعية ولا يمكن لأعضاء المجلس الاضطلاع بمهام قيادية حزبية أو نقابية وهم يتمتعون بالحصانة القضائية. يذكر ان المجلس الدستوري أصدر منذ إحداثه ما يناهز 1200 رأي وقد أمكن بفضل هذه الآراء حذف عديد الأحكام التي أثارت اشكالات دستورية من قبله بما يجعل القوانين متطابقة ومتلائمة مع الدستور وهو ما يجسم مبدأ دولة القانون.