ملح البحر يلهب دماءهم. ويبعث فيهم شحنة لا متناهية من الحيوية والنشاط.. فهو ينامون على هدير أمواجه العاتية ويصحون وقد غمرت مياهه الدافقة عتبات بيوتهم المتداعية.. يتصارعون معه يوميا بلا هوادة ويقاومون بشجاعة مدّه المفرط في النهم والجحود والأنانية، مد لا زجر بعده، يأتي على كل شيء أمامه بلا رحمة. هذا هو حال أهالي مدينة الريفيسك الواقعة على بعد 25 كلم من العاصمة السينغالية داكار.. فقد أصبحوا منذ سنوات قليلة يعانون من انجراف المحيط الاطلسي بل من خوف مستمر منه إذ أنه كثيرا ما يوقظ مضاجعهم ويحرمهم حلاوة الأحلام ويهدد أكواخهم البالية بالسقوط على رؤوسهم.. لقد اعيتهم مقاومته، لكنهم في المقابل يعشقونه حد النخاع ولم يخطر على بالهم أبدا هجره. وفي حديث مع بعضهم خلال زيارة ميدانية نظمها للمدينة برنامج الأممالمتحدة للتنمية بالتعاون مع الحكومة اليابانية لفائدة عدد من الصحفيين الأفارقةعلى هامش مؤتمرعلمي حول التغيرات المناخية، كشفوا عن هواجسهم، وقال أحد البحارة الذي كان بصدد رتق مصيدته وعلى مقربة منه أطفال يساعدونه علي أداء هذه المهمة الصعبة:»إن الناس في هذا الحي يتألمون في صمت من المعاناة التي يحيون.. لكنهم رغم ذلك متشبثون بالبقاء هناك ويريدون حلا. لأن جدران الاسفلت وأكوام الحجارة التي تم تثبيتها على مشارف البحر لم تعد حصينة وكثيرا ما ينساب منها ماء البحر إلى الديار والشوارع خاصة عندما يكون البحر غاضبا».. ويفسر جل الريفسكيين ظاهرة الانجراف البحري بأنها غضب مسلط عليهم من البحر.. وفي هذا الصدد يقول مامادو أنديا مرافقنا في هذه الزيارة وممثل برنامج تأقلم افريقيا مع التغيرات المناخية :»إن سكان الريفيسك يعتقدون أن جرأة البحر عليهم هي قدرهم المحتوم.. وأن البحر قد يكون غاضبا عليهم.». وهو نفس ما ردده منشط إذاعي يشتغل بالاذاعة المحلية بالمدينة إذ أشار إلى أن :»السواد الأعظم من سكان البلدة أميون.. وبالتالي فإنهم لا يفقهون شيئا عندما تحدثهم عن مسألة التغيرات المناخية وما فعلته بأحيائهم القريبة من البحر». وتفسر ايزابيل نيانق ديوف الأستاذة الجامعية في كلية العلوم بداكار وأصيلة البلدة أن ارتفاع مستوى البحرهناك ناجم عن ارتفاع درجات حرارة الأرض الذي أدى إلى ذوبان الجليد.. وأضافت الخبيرة ل «الصباح» أن الوضع في مدينة الريفيسك سيزداد تأزما في صورة عدم التدخل العاجل لحل معضلة التغيرات المناخية.. خاصة وأن السكان ليست لهم المعارف الضرورية حول الظاهرة ولا يعرفون كيف يعالجونها وحتى كيف يتعاملون معها». ويأمل عدد من السكان ان تتولى المنظمات الدولية المانحة والدول الصناعية التي كانت قد تسببت في الاحتباس الحراري تقديم المساعدة وإنقاذهم من الوحل الذي يعيشون فيه. ومن جهته لم يخف ميسا انديا بيبي النائب الأول لرئيس بلدية الريفيسك عجر البلدية على إيجاد هذا الحل السحري في غياب الموارد المالية اللازمة. وقال إن تأهيل المدينة وترميم مبانيها وحمايتها من الانجراف البحري يتطلب موارد مالية ضخمة لا قدرة لميزانية بلدية الريفيسك على تحملها.. كما لا يخفى على زائر البلدية نفسها أنها هي بدورها في حاجة إلى موارد مالية ضخمة لترميمها وتطوير خدماتها.. فالموظفين هناك رجالا ونساء يفترشون خلال القيلولة حصيرا باليا لتناول الغذاء وأخذ نصيب من الراحة أوالنوم قبل العودة للعمل خلال الحصة المسائية. ويقول ميسا إن غياب الموارد المالية الكافية لتأهيل المدينة خلق مشاكل اخرى عصية الحل وهي استفحال البطالة والفقر.. وأضاف أن الأزمة المالية العالمية مرت من هناك وألقت بثقلها على أهالي الريفيسك... ويلحظ زائر هذه البلدة الساحلية الفقيرة المتربعة على ضفاف البحر أنها مزدحمة جدا بالسكان.. فالكل يجوبون الشوارع أو يجلسون جماعات جماعات أمام أبواب منازلهم يتحادثون أويبيعون الذرة المشوية أويحرصون مواشيهم في انتظار تقديم المساعدة للشبان الذين أبحروا لجلب الأسماك.. ورغم صغر مساحة المدينة فهي تأوي أكثر من 180ألف ساكن ثلاثة أرباعهم شباب وهم يتوزعون على92 منطقة مدقعة، وأغلب المباني فيها ذات طابع معماري أوربي جميل لكنها متداعية للسقوط أو عوضت أسطحها الاسفلتية قضبان أشجار وأخشاب وقش وأشياء أخرى لا يمكن تمييزها بسهولة. وحيثما حللت في شوارع الريفيسك يعترض سبيلك بالأحضان عشرات الأطفال الصغار حفاة عراة يتدفقون حيوية يلعبون ويعبثون، وفي نفس الوقت يساعدون أهاليهم على جلب الماء أو اعداد مصائد الأسماك أورعي الماعز أوشواء الذرة على النار وبيعها ساخنة على قارعة الطريق..