بعيد نكسة جوان/حزيران 1967 كتب الشاعر السوري نزارقباني قصيدة بعنوان «هوامش على دفتر النكسة»..اليوم وبعد قرابة نصف قرن يشهد الوطن العربي موجة من الإنتقاضات والاحتجاجات الشعبية ضد الإستبداد والفساد والفقر والتهميش،المتتبع للتغطية الإعلامية العربية يلاحظ هيمنة خطاب يفتقر لأبسط أسس التحليل الموضوعي وقراءة سطحية للأحداث تزيف وعي المواطن العربي وتغيب حس النقد لديه. في هذا المقال لن نسعي إلى تشريح الإنتفاضات العربية بل سنكتب هوامش على دفتر «الربيع العربي» وكلنا أمل أن يأتي اليوم الذي نكتب فيه مقالا بعنوان «هوامش على دفتر النصر»... تونس ومصر: سقطت البيادق وبقي الملك...
رغم اختلاف طبيعة تركيبة النظام في كل من مصر وتونس والتفاوت في الأهمية الجيوسياسية للبلدين فإنه هناك تشابه كبير فيما حصل في كلتا الحالتين: عندما تجذرت الانتفاضة وبدأت تتبلور ملامح ثورة شعبية تهدد بإسقاط النظام برمته وتصنع واقعا جديدا قررت القوى الدولية الراعية للنظامين أن الوقت حان للتضحية بالعضو المتعفن حتى لا تنتقل العدوى إلى كامل الجسد وحتى تبقى هناك إمكانية لإعادة التحكم في اللعبة من جديد فسقطت البيادق وبقي الملك...إستطاع كلا النظامين تخطي الموجة الثورية ببعض الخسائر ففي مرحلة أولى قدم النظام تنازلات شكلية ثم التقط أنفاسه واسترد بعضا من عافيته وحصر التفاوض مع أحزاب ونخب سياسية بعد أن نجح في إخراج الحراك الشعبي من دائرة القرار ويبدو أن النظام السياسي الذي أعاد تشكيل نفسه من جديد هو من سيشرف على «مسار الانتقال الديمقراطي» وفق شروط معينة تتعلق خاصة بالنمط الإقتصادي والسياسات الخارجية...
لا يستطيع أحد أن يلوم الليبيين عندما يثورون على نظام معمر القذافي الذي أخرج ليبيا من التاريخ ولم يستطع رغم طول فترة حكمه وضخامة الثروة الطاقية أن ينتقل بليبيا إلى مصاف الدول الصاعدة. المشكلة إنه لا يمكن إعتبار ما حدث في ليبيا ثورة شعبية، بدأ الأمر بمجرد تحركات شعبية مطلبية بسيطة في بنغازي في 17 فيفري تعاملت معها السلطات بعنف شديد وغباء أشد. كانت تلك اللحظة المناسبة التي لطالما انتظرتها أنظمة إقليمية ودول غربية لها حسابات قديمة مع النظام الليبي وأطماع أقدم في خيرات ليبيا. تم إحياء «الجامعة العربية» الميتة سريريا لتقوم بدور «المحلل الشرعي» للتدخل الأجنبي في ليبيا فتحول الأمر إلى تمرد مسلح مدعوم من طرف الناتو... الخوف كل الخوف أن يكون الشعب الليبي قد استبدل نظام القذافي بمجموعة من المرتبطين بالخارج وبعض الإنتهازيين الذين كانوا خدما للقذافي نفسه أو مرتبطين بأنظمة إقليمية أتعس من نظام القذافي...
البحرين: تلك حدود الله فلا تقربوها...
عندما بلغت الاحتجاجات البحرين اشتعل الضوء الأحمر وإتفق الجميع على إنها ثورة «حرام» وإنه لا يمكن التسامح معها فالخليج العربي يعتبر بكل المقاييس بقرة حلوبا وقاعدة عسكرية متقدمة بالنسبة للقوى الإمبريالية وعلى رأسها أمريكا..الدول الخليجية إعتبرت الأمر مخططا إيرانيا والأمريكان نددوا بالتدخل الخارجي في البحرين (إبليس ينهي عن المنكر).. منظمات حقوق الإنسان أصابها الخرس والقنوات الفضائية العربية أشاحت بوجهها بعيدا...السعودية ووفاءا لتقاليد «الشهامة العربية» أرسلت دباباتها وجنودها الذين دخلوا البحرين رافعين شارات النصر وكأنهم دخلوا ليحرروا القدسالمحتلة...لكن كل المؤشرات تؤكد إن للحكاية بقية وإن دول الخليج ليست في منأى عن الهزات.
اليمن: المربع الأول...
بدأ اليمنيون المشوار من الآخر لكنهم لم يقرأوا جيدا طبيعة الواقع في اليمن كما إنهم حصروا الأشكال النضالية في المسيرات والإعتصامات و«الجمعات» الإستعراضية. في مواجهة الحراك الشعبي يعتمد علي عبد الله صالح على تحالفاته القبلية وعلى إنتهازية بعض أطراف المعارضة كما إنه يحظى بدعم الأنظمة الخليجية وأمريكا التي تعتبر النظام اليمني أحد جنودها المخلصين في ما يسمى «الحرب على الإرهاب»...الرئيس اليمني عاد إلى بلاده بعد رحلة عالج فيها حروقه والحروق التي أصابت نظامه ويبدو إنه سيعيد الوضع في اليمن إلى المربع الأول فالوضع هناك أصبح مفتوحا على كل الاحتمالات: صفقة بين الرئيس وأحزاب اللقاء المشترك تحت مسمى «المبادرة الخليجية»، تصاعد الإنتفاضة الشعبية وتمكنها من الحسم، حرب أهلية وربما عندها سنشهد تدخلا جديا للدول الإقليمية وللأمريكيين خوفا من أن تنهار الدولة في اليمن وتشتعل الأوضاع على حدود إمارات النفط...
سوريا: «المؤامرة الخارجية» و«الجبهة الداخلية»
لم يتعلم النظام السوري الدرس مما جرى في ليبيا وعوضا أن يتعامل بحكمة مع ما يجري في الشارع لجأ لسياسة الهروب إلى الأمام.. لم يعد الخطاب الممجوج عن مؤامرات خارجية مقنعا ولا يمكن أن يكون حجة لتأجيل الإصلاح. نعم سوريا مستهدفة منذ عقود ولكن «الممانعة» لا تكون بالشعارات الجوفاء ولا يمكن أن تكون حجة لتأبيد الإستبداد وتجاهل المطالب الشعبية، لقد علمنا التاريخ إنه لا يمكن التصدي للمؤامرات الخارجية بدون تحصين وتوحيد الجبهة الداخلية. يجب أيضا على المعارضين والمحتجين أن يتعلموا من الدرس الليبي وأن لا يهرولوا إلى طلب «الحماية» من الدول التي طالما كانت معادية لسوريا والتي تنتظر الفرصة السانحة لإستكمال تنفيذ مشروع «الشرق الأوسط الجديد». رغم إن «المجتمع الدولي» ووسائل الإعلام العربية والغربية تريد أن تصور الأمر على إنه وصل إلى نقطة اللاعودة وإنه لا مجال لحل داخلي.
«الربيع العربي».. المغيم
المواطن العربي الذي نزع «كاتم الصوت» والذي يسعى إلى طرد شبح الخوف الذي قهره طيلة عقود، وضع قدمه على أول الطريق ويجب أن لا يضيع بوصلته فيسير في طريق دائري يعيده إلى نقطة الصفر. يجب أن نعي جيدا إن الديمقراطية في الدول المستعمرة أو التي لا تتمتع باستقلال قرارها الوطني ستكون مجرد لعبة في يد نخب سياسية وعسكرية ومالية فاسدة مرتبطة بالخارج. نكتب هذا المقال لأننا نخشى أن يتحول «الربيع العربي» إلى مجرد يوم صحو في الشتاء العربي الطويل، لا نريد أن تصبح الانتفاضة العربية مجرد «ثورات ملونة ومخملية» تصنع في مخابر الدول العظمي ويقوم بتسويقها نخب محلية تسعى للالتفاف حول التغيير الحقيقي عبر تبديل «اللاعبين» دون تغيير «قواعد اللعبة». بدلا من كلمة «ربيع عربي» من الأفضل والأدق الحديث عن «مخاض عربي» في إنتظار النتيجة: هل سيولد الطفل سليما معافى أم إنه سيولد مشوها؟..لكن رغم كل شيء نقول إن كلنا ثقة في إن شمس الربيع العربي ستشرق عاجلا أم آجلا...