:استمرار الوجوه "القديمة المؤقتة" لا يبدو مريحا من الناحية السياسية.. لا يمكن أن نفهم هذه المرحلة المفصلية في تاريخنا المعاصر والتي تتأهّب فيها البلاد لخوض أوّل انتخابات ديمقراطية حقيقية بمعزل عن قراءات الخبراء الأكاديميين ورؤيتهم للمسألة ووضعها في سياقها التاريخي من منطلق أن الحراك السياسي في أي بلد خاضع لصيرورة الأحداث ويعكس بطريقة أو أخرى تراكمات اجتماعية وسياسية ونفسية تولّد واقعا قابلا للدراسة والاستشراف..وبما أنّ المرحلة الحالية وليدة معطى سياسي مستجدّ لم يعتده الشعب التونسي ومازالت الذهنيات والعقليات في مرحلة التدرّب عليه..وفي ذات السياق اتصلنا بالدكتور عبد اللطيف الحناشي الباحث في التاريخ المعاصر ليبسط قراءته لمجريات الأحداث اليوم خاصّة بعد التصريح الذي أدلى به الباجي قائد السبسي في نيورك تايمز ذات التأثير على الرأي العام الأمريكي والتي تبدو محملة برسائل للشعب التونسي خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار الدور الأمريكي في المعادلة التونسية.. من الناحية السياسية الأخلاقية هل يستقيم بقاء الباجي في موقع صنع القرار السياسي بعد انتخابات 23 اكتوبر؟ بداية لا بدّ من التاكيد ان صنع القرار في بلد ديمقراطي لا يتخذه مسؤول سياسي لوحده بل يشترك في صياغته وبلورته،عادة، مجموعة من اصحاب الراي والفكر وممن يملكون تجربة وخبرة في الميدان.. وتبعا لسياق سؤالك نقول انه بامكان السيد باجي السبسي ان يظل في موقع صنع القرار ولكن في ايّ درجة من سلّم اتخاذ القرار وصنعه؟ هل بصفته رئيسا مؤقتا للوزراء؟ ام بصفته من اصحاب الراي والمشورة وممن يملكون تجربة وخبرة في الميدان؟. للاجابة عن هذا السؤال ومتفرعاته علينا الرجوع الى المرسوم المنظم للفترة الانتقالية والنص القانوني.بالنسبة الى مرسوم 23 مارس نلاحظ انه لا يحدد بدقة ووضوح تاريخ انتهاء مهام السلطة الانتقالية في حين ان النص القانوني يؤكد بشكل واضح على ضرورة استقالة مباشرة لرئيسي الدولة والحكومة بعد اتمام اختيار شخصيتين بديلتين من قبل المجلس الوطني التأسيسي المنتخب.. كما ان وثيقة المسار الانتقالي تنص على مواصلة الحكومة المؤقتة لمهامها إلى غاية تشكيل حكومة جديدة. غير ان المدة الزمنية لتلك العملية قد تتمدد او تتقلص تبعا لما تتطلبه بعض الاجراءات الضرورية كمسألة هيكلة المجلس وتنظيمه (الموافقة على النظام الداخلي والاتفاق او انتخاب رئاسة المجلس ونائبي الرئيس والمقررين..). ولاشك ان ذلك يخضع للتوازنات السياسية لتركيبة المجلس ومدى انسجام اعضائه واتفاقهم من حول طريقة اختيار رئيس الجمهورية والوزير الاول وكذلك الاتفاق على مقاييس الاختيار وهو ما يتطلب بالضرورة زمنا معينا يسمح للسلطة الانتقالية بممارسة دورها بشكل مؤكد في انتظار ان يستكمل المجلس تلك الاجراءات ثم الاختيارات..بعد ذلك قد يختار المجلس رموز السلطة الجديدة الانتقالية الثلاثة القادمة من داخل المجلس المنتخب او من خارجه (الرئيس والوزير الاول)..ومن هنا ياتي احتمال اختيار السيد الباجي السبسي كاحتمال وارد مثل احتمالات اخرى ممكنة.. ونعتقد ان المسألة ستخضع بشكل متفاوت ونسبي لموازين قوى داخلية واخرى خارجية(من خارج المجلس بل حتى من خارج البلاد..)، كما يخضع الامر ايضا الى رغبة السيد باجي قائد السبسي وارادته شخصيا وتقديره للامور(اذا طلب منه المجلس التاسيسي المنتخب مواصلة رئاسة الوزراء)، ويحيلنا هذا الى التصريح الذي ادلى به مؤخرا السيد الباجي صحيفة «نيويورك تايمز» حيث اعترف بأنه ليس جاهزا للتقاعد وهو ما فُسّر، من قبل الملاحظين والفاعليين السياسيين بتونس،على انه راغب في الاستمرار في المنصب..بداية لا بد من ابداء ملاحظتين اثنتين في هذا المضمار تتعلّق الاولى باهمية جريدة «نيويورك تايمز»وقربها من الديمقراطيين وتاثيراتها الواسعة في الراي الامريكي وتتعلق الملاحظة الثانية في كون ان السيد الباجي قد ادلى بهذه الرغبة اثناء زيارته الى الولاياتالمتحدةالامريكية وقبل استقباله من قبل الرئيس اوباما بنحو يومين ولا شكّ ان في ذلك عدة دلالات وربما رسائل محددة.. لاشكّ ان رغبة السيد الباجي تُحترم وهو حرّ في اختيار ما يرغب ولا احد يشكّ في خبرته وحنكته ودرايته السياسية غير ان ذلك لا يمنع القول بان السيد الباجي قد بلغ من العمر عتيّا(اطال الله عمره) وان الشعب التونسي وخاصة الشباب الذي فجّر الثورة يريد وجوها جديدة خلاقة بل الامر ينسحب حتى على الشيوخ الذين ملّوا من رؤية مسؤولين يتشبثون في الحكم..وعلى السيد الباجي ان يحترم رغبات الشعب وآماله في ان يرى شخصية جديدة في الحكم .فمهما كان الامر فالسيد الباجي هو من «العسكر القديم» الذي خدم طويلا البلاد منذ الستينيات وآن الاوان ان يستريح وان ينعم بتقاعده وان يفيدنا بنقل تجربته الثرية خلال هذه الفترة الدقيقة والحساسة التي مرّت بها البلاد وان يقدم للاجيال الجديدة وللمؤرخين تجربته تلك وحتما ستكون كتابته أجمل وأنفع، كما فعل عندما اصدر ما يشبه المذكرات، مع اختلاف الظروف اي مع هامش واسع من الحرية التي جاءت بفضل دماء الشهداء وبفضل ثورة الشباب التونسي.. ولا شكّ ان عدم مواصلته المسؤولية «المباشرة» ستكون تجسيدا للمبادئ التي آمن بها وحاول تكريسها منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي ووفاء للعهود التي قطعها على نفسه بانه لن يتحمل اية مسؤولية سياسية بعد انتخابات 23 اكتوبر، ولا اظنّ ان السيد الباجي بحنكته وبما يكتنز من «ثقافة ديمقراطية» سيتشبّث بالمنصب بعد 23 اكتوبر وهو بذلك سيخرج من الباب الكبير معزّزا مكرّما وسيسجلّ بذلك سابقة في ممارسة التناوب على السلطة في الدولة التونسية المعاصرة. هل ترى أن الحكومة المؤقتة وخاصّة وزارات السيادة تعاملت بحنكة واقتدار مع الملفات الساخنة والعاجلة؟ بطبيعة الحال تبدو الامور نسبية في هذا المجال، عندما نتحدث عن وزارات السيادة وعن الملفات الساخنة.لقد واجهت حكومة السيد الباجي قائد السبسي العديد من المشاكل الداخلية المركبة والمعقدة:اقتصادية واجتماعية وسياسية وامنية...بالاضافة الى ضغوطات خارجية وبالتحديد ضغوطات اقليمية لعل اخطرها تداعيات الوضع في ليبيا على تونس..ولكن ذلك لا يعني ان حكومة السبسي قد تمكنت من حلّ كل المشاكل والتغلب عليها بل ان الكثير من تصرفاتها وسلوكها لم يرق الى ما كان مأمولا منها انجازه .فأداؤها كان ولا يزال بطيئا من جهة معالجة قضايا هامة وحساسة بالنسبة الى الشعب التونسي كمحاسبة رموز نظام الفساد والاحتيال والتحيّل في مختلف القطاعات الحيوية الوطنية والجهوية كما ظلت مسألة استقلالية القضاء واصلاح الجهاز بطيئة حتى لا نقول منعدمة..وينسحب الامر على المنظومة الامنية وجهازها. اذ لم تباشر عملية اصلاح هياكلها الا بوتيرة محتشمة خاصة مع استمرار تحكّم بعض مراكز القوى ذات العلاقة بالرئيس المخلوع، في الكثير من الملفات ولربما المساهمة في تعطيل عملية الاصلاح بطرق او باخرى والتغطية على بعض رموز الفساد الاداري والسياسي والاقتصادي وبؤره مما يجعل الطريق الى معالجة الملفات الساخنة مؤجلة.كما قد يفسح ذلك المجال امام تلك الاطراف المساهمة ربما، بما تملك من خبرة ودراية، مع قوى اخرى، في عرقلة السير الطبيعي لعملية الانتقال الديمقراطي.. عندما تواصل حكومة انتقالية في مرحلة تأسيسية هل يمكن عندها أن نتحدّث على انتقال ديمقراطي حقيقي؟ اعتقد هنا اننا نتحدث عن فرضية.. فمن المفروض ان تستمر الحكومة الانتقالية في تسيير شؤون البلاد وذلك حتى تاريخ مباشرة المجلس الوطني التأسيسي لمهامه وضبطه لتنظيم آخر للسلط العمومية كما نص على ذلك مرسوم 23 مارس 2011 المتعلّق بالتنظيم المؤقت للسلطة العمومية عندها نتحوّل الى صيغة اخرى ومن المفروض ان تتحمّل وجوه اخر،من المجلس او من خارجه للمسؤوليات وخاصة رئاسة الدولة والوزير الاول والوزراء تبعا لما ستفرزه نتائج انتخابات المجلس التاسيسي والتحالفات بين الاطراف السياسية في المجلس..لكن في السياسة الكل جائز وممكن،اذ قد يجد المجلس نفسه في مأزق ما وللخروج من ذلك المأزق المحتمل قد يلتجئ مثلا الى الوزير الاول ويطلب منه مواصلة مهامه في انتظار حسم الامر هذا اذا رغب او قبل الوزير الاول المؤقت ذاته ذلك..غير ان استمرار الوجوه «القديمة المؤقتة» القيام بنفس المهام لا يبدو مريحا لا على المستوى السياسي ولا على المستوى النفسي اذ سيشكل خيبة كبيرة للشعب ولطموحاته وآماله في قيام حكم ديمقراطي كما قد يعبّر ذلك عن عجز النخبة السياسية المُنتخبة ديمقراطيا للقيام بدورها الطبيعي المُفترض..ولكن ورغم كل شيء اعتقد ان الامر قد لايحصل اذ ان جميع الاطراف السياسية الوطنية الفاعلة على قدر كبير من المسؤولية والوعي بما تتطلبه مرحلة ما بعد الانتخابات من قرارات لا بدّ وان تتماهى مع تضحيات الشعب التونسي ونضالاته من اجل اقرار نظام ديمقراطي بمؤسّساته المختلفة... وثيقة إعلان المسار الانتقالي غموض يلف الشخصية التي ستشكل الحكومة! قبل انطلاق الحملة الانتخابية تولت الأحزاب الممثلة في الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة التوقيع على وثيقة «اعلان المسار الانتقالي» وهي على التوالي التكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات وحركة التجديد وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحركة الوطنيين الديمقراطيين وتونس الخضراء والحزب الديمقراطي التقدمي وحركة النهضة وحزب العمل الوطني الديمقراطي وحزب الطليعة العربي الديمقراطي والحزب الاشتراكي اليساري وحزب الاصلاح والتنمية في حين رفض المؤتمر من أجل الجمهورية التوقيع. وتنص هذه الوثيقة على: *التزام الموقعين عليها المطلق بموعد 23 اكتوبر 2011 لانتخاب المجلس الوطنى التاسيسي. *تحييد أماكن العبادة والمؤسسات التربوية والإدارية وأماكن العمل عن كل دعاية انتخابية. * ضرورة أن لا تتجاوز فترة أشغال المجلس الوطني التأسيسي مدة السنة على أقصى تقدير حتى تنصرف البلاد ومؤسساتها لمعالجة جملة القضايا الأساسية الأكيدة خاصة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي. *وتنصّ الوثيقة على أن يواصل الرئيس المؤقت والحكومة الانتقالية الحالية مهامهما إلى حين انتخاب المجلس الوطني التأسيسي رئيسا جديدا للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة . ويتولى الرئيس المؤقت الحالي وفق هذه الوثيقة اثر الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات إلى التئام أول اجتماع للمجلس الوطني التأسيسي الذي ينتخب فورا رئيسا له لادارة وتسيير اشغاله وتنظيم جلساته ويكون لجنة لصياغة نظامه الداخلي. وجاء في التصور إن المجلس الوطني التأسيسي يحدد النظام الجديد للسلط العمومية وينتخب رئيس الدولة الجديد على أساسه. *يكلف رئيس الدولة الجديد شخصية بتشكيل حكومة بعد التشاور مع المجموعات المكونة للمجلس الوطني التأسيسي على أن تواصل الحكومة الانتقالية الحالية تصريف الأعمال إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة. ما يلاحظ في البند الأخير من الوثيقة أن الشخصية التي سيعينها رئيس الدولة الجديد والتي ستقوم بتشكيل حكومة لم يحسم في شأن ما اذا كانت من داخل أو خارج المجلس فتح باب التأويلات والتخمينات على مصراعيه خاصّة بالنظر الى وزن الأحزاب المصادقة على الوثيقة.