أما وقد هدأت النفوس - نسبيا - ولأنه لا بد من أن تتظافر الجهود من أجل منع أية محاولة لمزيد تأزيم «المشهد» أوالمتاجرة بالمسألة - سياسيا وايديولوجيا - في الداخل والخارج... ولأنه لابد لنا كتونسيين من أن نتحاور بهدوء وعقلانية بخصوص ما بات يعرف اليوم بقضية فيلم «برسيبوليس» الكارتوني سيء الذكر الذي بثته قناة «نسمة» وذلك حتى لانخرج بالمسألة عن اطارها الأصلي الثقافي الابداعي وعن سياقها الاعلامي الذي تنزلت فيه... فان الواجب - واجب الغيرة على التجربة الديمقراطية الوليدة - تدعونا جميعا الى أن نترك جانبا أسلوب التفتيش في النوايا واصدار «الأحكام الباتة» بالتخوين والتكفيروالتطرف في حق الأشخاص والمجموعات وأن نقارب الموضوع مقاربة ثقافية معرفية علها تساعدنا على تشخيص «الحالة» تشخيصا موضوعيا دقيقا من أجل الوقوف على «خلفيات» القضية في أصلها وتبين جوهر المنطلقات الثقافية والنفسية والاجتماعية التي حددت وصاغت طبيعة مواقف وردود أفعال كل «الأطراف»... وما من شك أن سؤال («لماذا؟») الاستفهامي المباشر يبقى - بالرغم من «بساطته» و»عفويته» - يمثل المدخل الأسلم والأقصر والأبلغ لتحصيل اجابة أولية بخصوص أية قضية أو حادثة - مهما كانت طبيعتها-... ولكننا - مع ذلك - سوف لن نسأل - هنا - : لماذا أقدمت قناة «نسمة» على بث هذا الفيلم الاستفزازي؟ لأن محاولة الاجابة عنه قد تقودنا الى اصدار نوع من «الأحكام» تكون مبنية - في جانب منها - على «البحث في النوايا»... ولكننا - بالمقابل - سنسأل وباصرار: لماذا جاء رد فعل الشارع التونسي على بث الفيلم على تلك الدرجة من الحدة التي فاجأت الجميع بمن فيهم أولئك الذين يعتقدون بقوة في حساسية المسألة الدينية بالنسبة لعموم التونسيين ولا يتجاهلونها كمعطى ثقافي واجتماعي... ان الجواب عن هكذا سؤال لا يمكن استقاؤه الا من خصائص التركيبة الثقافية العقدية للانسان التونسي المسلم الموحد... ونقول «الموحد» - تخصيصا - لأن فيلم «برسيبوليس» خطره أنه مس ذلك الجانب المثالي باطلاق في «صورة» الذات الالاهية في مخيال واعتقاد وايمان الانسان التونسي.. فها هو الله - سبحانه - «الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد» والذي «ليس كمثله شيء» والذي «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» - بحسب القرآن الكريم - ها هو يتحول من خلال فيلم «برسيبوليس» الى مجرد صورة كرتونية في متناول العبث الصبياني... وأين ؟ في قناة تلفزيونية تونسية محلية.. انها - اذن - عملية استهزاء كامل وتطاول على الذات الالاهية - من جهة - وعلى «الصورة» المنزهة لذات الله في عقيدة عموم التونسيين - من جهة أخرى - وهي «الصورة» ذاتها التي توارثها التونسيون - تاريخيا - كابرا عن كابر والتي لا يبدو أنهم يقبلون أية محاولة للمساس بها أو التطاول عليها من أي كان ومهما كان الغطاء أوالتعلة... (حرية ابداع أو حرية تعبيرأو غيرها...) طبعا، هذا الكلام لايعني أن كل انسان تونسي قد تحول الى قطب من أقطاب المعتزلة أوأنه معتزلي التفكير بمعنى شديد الحرص على مبدأ التنزيه المطلق في حق الذات الالاهية بالطريقة والكيفية الفلسفية والكلامية التي يقدمها فكر هذه الفرقة العقلانية في تاريخ الفرق الاسلامية... ولكن يعني - من بين ما يعني - أن رد فعل الشارع التونسي الذي جاء قويا وحادا وصاخبا - بأتم معنى الكلمة - لا يمكن تفسيره بأنه مجرد تحركات لمجموعات أصولية «متطرفة» تحمل في بنية تفكيرها ورؤيتها للأشياء «عداوة متأصلة لمبدأ الديمقراطية ولكل ما هو حريات عامة وفردية داخل المجتمع» - كما يريد أن يوحي البعض - وانما ترجمة صادقة وعفوية لموقف شعبي - لا شعبوي - لا يزال متأصلا بالكامل وعميقا - والأرجح أنه سيبقى كذلك والى الأبد - في جذوره الثقافية الأصل... وعني بها الثقافة العربية الاسلامية من حيث هي عقيدة وتصور ورؤية متفردة للكون والحياة والانسان...