لم يعد يفصلنا عن انتخابات المجلس التأسيسي سوى أيام قليلة. ومع اقتراب هذا الموعد الهام والحاسم الذي من المفروض أن يحمل آمال كل التونسيين لا سيما بالنسبة للقطاعات الثقافية الراغبة في القطع مع السياسات القديمة المبنية على غياب العدالة والقمع والتهميش والعشوائية والتأسيس لسياسة ودولة قوانين جديدة تكفل كل التونسيين وتوفر لهم حق المواطنة وتخلق مناخ ملائم للإبداع والعمل. لكن يبدو أن مثل هذه الانتظارات أو جانب هام منها قد تذهب أدراج الرياح خاصة ما تعلق منها بالميادين الثقافية والفنية والفكرية. فقد بدأ الخوف يدب في أوساط مختلف هذه القطاعات لا سيما في ظل غياب موقف أو سياسة واضحة وصريحة لأغلب الأحزاب في برامجها ومشاريعها السياسية التي تدخل بها في سوق المزايدات الحزبية من أجل الفوز بمركز في المجلس التأسيسي. فغياب أجندة عمل واضحة المعالم دفع عدد من المسرحيين والسينمائيين والكتاب والأدباء والفنانين التشكيليين-مثلا- لإطلاق صيحات فزع تدعو الفاعلين في هذه الميادين تقريبا للتحرك على أصعدة مختلفة لدرء خطر التهميش وشبح التغييب وقمع الحريات باعتبارها ديدن الإبداع قصد وضع استراتيجية أو خطة عملية تضمن مستقبل أفضل لمختلف القطاعات الفنية في دولة تونسالجديدة قد يصل الأمر إلى رسم مشروع قوانين تلزم المجلس التأسيسي باتباعها. لذلك وجدت مبادرة حركة الوطنيون الديمقراطيون بتنظيم لقاء موسع مع ممثلين عن مختلف هذه القطاعات لبحث انتظاراتهم وتقديم اقتراحاتهم للمجلس التأسيسي الصدى الكبير لدى نسبة هامة من هذه الشريحة من المجتمع التونسي.
غياب أم تغييب؟
أجمع عدد كبير من أهل الفنون والثقافة عن وجود تغييب وتهميش للفنان والمثقف التونسي في مشاريع البرامج السياسية التي قدمتها بعض الأحزاب أو وعدت بها في تصوراتها لتونسالجديدة إلا أن الغالب على المشهد التحزّبي هو استبعاد الفن والثقافة كميادين إبداع وابتكار تستقطب وتشغل أعدادا كبيرة من خريجي الجامعات أو المعاهد العليا المختصة فضلا عما تقدمه من مادة سواء في المسرح أو السينما والأدب والفنون التشكيلية وغيرها من الأعمال الدرامية والفنية وما تلاقيه من إقبال كبير من قبل المتلقي التونسي وغيره من مختلف الشرائح العمرية والاجتماعية. والسبب حسب رأي الأغلبية هو أن جل الأحزاب مفلسة ثقافيا ولا يملك ممثلوها أدنى فكرة عن الأنشطة والواقع الثقافي وما يكتنف العملية الإبداعية من ظروف قانونية ولوجستية ودعم من الدولة. حيث يقول المسرحي الشاذلي العرفاوي :» هذه المرحلة تستوجب تثقيف السياسي وليس تسييس الثقافي. ولكن للأسف لم تتراء لنا بوادر في أجندا الأحزاب تؤشر لتعاطي مطلوب مع المثقف والفنان لذلك يجب أن تكون البادرة من أهل هذا الميدان باعتبار أن المبدع لا يعيش تحت أية وصاية لأنه يتواصل مع المجتمع من خلال مشروع فني لا يكون إلا حرا من أي قيود سياسية أو إيديولوجية وطليقا. لذلك من المفروض أن يكون ثائرا وناقدا.» وهو تقريبا نفس ما ذهب إليه ناصر السردي الذي طالب أيضا بضرورة التمسّك بمسألة إعادة النظر في القوانين المعمول بها مختلف القطاعات الثقافية نظرا لأن بعض النقاط القانونية فيها تشرع لبعض التجاوزات على نحو تخدم مصالح البعض على حساب البعض الآخر خاصة ما تعلق بشركات الإنتاج والدعم. نفس المسألة تقريبا مطروحة في أوساط الفنون التشكيلية كما أكد ذلك عمر غدامسي. حيث يرى أن الفنانين التشكيليين ومختلف المهن والحرف الأخرى ذات العلاقة بالمجال يسعون ويعملون جاهدا منذ الأشهر الماضية من أجل إعادة النظر في القطاع وإعادة هيكلته على نحو يضمن تطور مستوى هذا الفن وضمان ظروف أفضل للعاملين فيه إلا أنهم وجدوا أنفسهم أمام إشكال قد يطرحه خلو المجلس التأسيسي ومن ثمة سياسة الحكومة الجديدة من رؤى وسياسة واضحة واستشرافية لهذا القطاع كغيره من القطاعات الفنية الأخرى. الأمر الذي دفع نقابة مهن الفنون التشكيلية بالتنسيق مع اتحاد الفنانين التشكيليين بتونس لبحث السبل الممكنة لضبط برنامج عملي من شأنه أن ييسر عملية التعاطي مع هذا القطاع على نحو يحافظ على نفس المبادئ والأهداف المرسومة والمنتظرة من الدولة الجديدة بدءا بالإسراع بتجاوز الهنات وتقريب وجهات النظر بين مختلف الهياكل التابعة لنفس القطاع.
مكسب الديمقراطية غير قابل للتفريط فيه
واستنكر لطفي العبدلي المظاهر والمشاهد التي اعتبرها من المضحكات المبكيات التي يسجلها الشارع والمجتمع التونسي في إطار «التكالب» أو التسابق من أجل السلطة والمراكز القيادية في الدولة حيث يقول :» لا أعرف هل أن هؤلاء يتعمدون تناسي وتغييب القطاعات الحساسة والهامة في البلاد على غرار الميدان الثقافي والفكري والفني رغم ما يضمه من كفاءات وخبرات إبداعية فضلا عن قطاع الإعلام لأنه لا يقل قيمة عن سابقيه من حيث ارتباطه بحرية الرأي والإبداع والنقد وتعرية الحقائق أو أن تصرّفهم هذا ينم عن جهل بأهمية هذه القطاعات الضرورية. فاليوم وبعد أن حققنا جزء أو نوعا من الديمقراطية لذلك لن نرضى بأن يفتك منا هذا المكسب مهما كانت الأسباب والدوافع لذلك نحن مطالبون «بتربية» الدولة الجديدة في ظل محدودية معارف جل المتسابقين إلى مراكزها على مبادئ حب وكيفية احتضان هذه القطاعات الحساسة حتى تضمن إنتاج وإنجاز أعمال فنية متميزة من حيث القيمة والمستوى.» كما أكد أن مكسب الديمقراطية الذي طالما تمسك به أحرار تونس من مختلف القطاعات الفنية وتجسد ذلك في الوقفة الاحتجاجية يوم 11 جانفي الماضي أمام المسرح البلدي وما رافقها من اعتداءات مسألة غير مطروحة للمزايدة أو التفريط. وأضاف العبدلي :» أنا أحب أن أكون فنانا حرا لا أنتمي إلى أي جهة. فحسب قناعاتي الفنان لا يجب أن يدخل في مزايدات شراء ذمته لأنه يتوجه ويستمد عمله من الشعب. فأنا مثلا أرفض أن أنتمي لأي حزب كما رفضت إقامة عروض تنظمها أحزاب ولا زلت متمسكا بهذا الموقف لأني أريد أن أكون فنانا حرا دون وصاية أي جهة أو طرف. ولم يخف المسرحي منير العرقي جسامة مسؤولية إصلاح القطاع المسرحي الذي ينشط في إطاره منذ عقود ولاحظ أن القانون الأساسي المنظم للقطاع في حاجة إلى المراجعة في وقت سريع وطالب أهل القطاع بتوحيد الجهود والاتفاق حول مصلحة عامة يقتضيها راهن القطاع في هذه الفترة من أجل ضمان سياسة ثقافية تخدم البلاد وتحرك وتنشط الساحة وذلك من خلال ضبط تشكيلة وهيكلة جديدة للمسرح الذي نظرا لما يتضمنه من مواطن شغل سواء من المختصين في المجال من حاملي الشهائد العليا أو من اختصاصات أخرى ذات علاقة.