في كلام المسؤولين الأمريكيين في خضم الزيارة الرسمية التي أداها الوزير الأول الباجي قائد السبسي مؤخرا إلى واشنطن إشارات واضحة إلى الاهتمام الكبير الذي توليه الولاياتالمتحدة لإنجاح الإستحقاق الإنتخابي التونسي باعتباره "تجربة في الديمقراطية" جديرة بالمتابعة وتوفير العوامل لنجاحها. تجربة قد تنجح كما أنها قابلة للفشل، ذلك ما يشير إليه التاريخ وما تترقب أمريكا الإجابة عليه.. أمريكا تدرك جيدا أنه في الماضي القريب فشلت تجارب نشر الديمقراطية بالقوة وكان ذلك خطأ أمريكيا، كما اعترف المنسق الأمريكي الخاص بالتحولات الديمقراطية في الشرق الأوسط. فكما في العراق وأفغانستان، كانت "التجارب" الأمريكية لدمقرطة الأنظمة في "الشرق الأوسط الكبير" فاشلة.. وسقط فكر "الرعب والصدمة" ليعوض بفكر آخر.. فكر يؤمن بتجريب أسلوب آخر.. أسلوب الدعم والترقب ثم التحليل وإصلاح الأخطاء إن وجدت وإن بالقوة... إنها فعلا "القوة الناعمة" لمنظرها جوزيف ناي.. استراتيجية ناي ظهرت في الفترة التي برزت فيها أفكار الحرب الإستباقية ونشر القيم السياسية الغربية وفق منطق القوة وهو فكر الصهيوني ليفي ستراوس. تلك الأخطاء ولدت انفجارات سياسية كبرى أتت حتى على أرفع المصالح الأمريكية في العالم- النفط وتأمين الطرق التجارية- ففي العراق ولد نظام هجين تتقاذف فيه الأطياف والأديان، ويلعب فيه نظام المحاصصة دورا كبيرا، ما أدى إلى زيادة طين الطائفية بلة بماء دسائس السياسة. أما في أفغانستان فقد كان للتعنت الأمريكي في ضرب "طالبان" أثر رجعي كبير على وضع البلاد، كان ضحيته الكبرى، المواطنون الأفغان العزل، الذين هرسوا بين السندان الأمريكي والمطرقة "الطالبانية". لقد كان عمرو موسى صادقا عندما قال في بداية الحرب الأمريكية على العراق أن الديمقراطية لا تأتي على ظهر دبابة، فالعنف الأمريكي أدى في الأخير إلى تقطيع أوصال العراق بين أيدي الشيعة والسنة والأكراد. حتى علماء السياسة والإستراتيجيا في العالم احتاروا في إيجاد معادلة "ديمقراطية" توفر قدرا من التفاهم بين هذه الطوائف. في أفغانستان كذلك كان التعنت الأمريكي وخيار مقاتلة الأفغان مروعا، ما جعل حرب واشنطن هناك هزيمة استراتيجية وسياسية، حيث باتت ثلاثة أرباع البلاد باتت تحت سيطرة "طالبان". تصريحات المسؤولين الأمريكيين هذه المرة تبدو واضحة، فالإستراتيجية الأمريكية العاجلة في منطقة الشرق الأوسط تعمل في نطاق ديبلوماسية خاطفة وسريعة، أو ما يعبر عنه ب"الديبلوماسية الشعبية"، تلك الديبلوماسية التي انتهجتها واشنطن في تونس ومصر ، سواء من خلال اتصالاتها مع مختلف المرشحين للإنتخابات ومسؤولي الأحزاب، أو من خلال الاتجاه للمجتمع المدني، خاصة وأن عقلية المجتمع المدني لازالت في طريق التشكل. الثقل الأمريكي تجلى كذلك في تلك أموال الهائلة المرصودة ل"رعاية" التحول الديمقراطي في دول الربيع العربي، حيث رصدت لتونس وحدها قرابة 30 ألف دولار للتنمية. كل تلك "التحضيرات" والمساعدات، وحالة الترقب التي يعيشها الأمريكيون تؤكد جيدا أنهم ينتظرون نتائج "تجربة" ديمقراطية جديدة وفريدة من نوعها لأن في نجاحها تحقيق مصالح أمريكية هامة، لا تريد واشنطن ضياعها وخاصة المصالح المتعلقة بالأمن ومراقبة الطريق التجارية الدولية، حيث أن هناك استراتيجيات أخرى تتطلع إلى المنطقة بعيون مترقبة، وخاصة مع ازدياد خطر "القاعدة" في شمال إفريقيا.