بقلم: محمد رضا العفيف طالعنا هذه الأيام السيد احمد المستيري بعد طول انتظار بمذكراته التي جاءت في أسلوب سلس وشيق غزير بالمعلومات وثري بالعبر حول مسيرة رجل مناضل ابي آمن بالديمقراطية منذ بداية عهده بالسياسة وقاسى من ذلك الأمرين.فهذا الكتاب يعيدنا الى ستين سنة خلت من الكفاح والعمل على جميع المستويات انطلاقا من نشأته وبيئته وسنوات الدراسة وانخراطه في سن مبكرة في مقاومة الاستعمار ومصاحبته لثلة او كوكبة من رجالات تونس كالمنجي سليم وعلي البلهوان والحبيب بورقيبة والطيب المهيري وصالح بن يوسف والطاهر بن عمار والباهي الأدغم الذين عايشهم طوال هذه الفترة الحاسمة من تاريخ تونس. فكل حقبة منه يسردها المؤلف بدقة ووضوح وبأقصى قدر من الموضوعية. وأريد من خلال هذه السطور أن اشدد على حلقة لاتقل اهمية عن غيرها ولكنها ظلت خفية تتعلق بعمل الرجل في الحقل الديبلوماسي من سنة 1960 الى 1966 اذ كان على التوالي سفيرا بالاتحاد السوفياتي ثم لدى جمهورية مصر العربية لتنتهي وتستقر بالجزائر الشقيقة غداة استقلالها الى ان عين كاتبا للدولة للدفاع الوطني في جوان 1966. فالمحطة السوفياتية اتاحت لسي احمد الاطلاع على مساوىء الحكم الفردي وعبادة الشخصية في أوج فترة محو الستالينية وما تركت في نفسه من انطباعات بل اعتقاد حول الحكم الكلياني واستئثار الطبقة الحاكمة بالثروات في مجتمع اسير ومراقب مرغم على اتباع الاشتراكية المطلقة وتمتد هذه الانطباعات الى بلدان الكتلة الاشتراكية كبولونيا مع التشديد على التعايش بين الاشتراكية والجذور الكاتوليكية والمجر ذو النزعة التحررية وتشيكسلوفاكيا وطموحاتها التحررية التي سرعان ماتم وأدها (المجر في اكتوبر 1956وتشيكسلوفاكيا في اوت 1968).ولابد هنا من الإشارة الى اللقاءات المتعددة والثرية لسي احمد مع القادة السوفيات من خروتشيف وبريجنيف وكوسيغين وسوسلوف وكذلك الزعيم الصيني شوان لاي بمناسبة زيارته ضمن الوفد الرسمي الى الصين الشعبية في صائفة 1961.سي احمد يروي لنا اجتماع قمة عدم الانحياز ببلغراد في اوائل سبتمبر 1961ولم تكن المصالحة التي تمت بين بورقيبة وعبد الناصر غداة معركة بنزرت واغتيال صالح بن يوسف ان تتم لولا حرص الماريشال تيتو ورعايته.ثم ينتقل بنا إلى مصر في أكتوبر 1961 اين عين سفيرا فكان شاهدا رغم المجهودات المبذولة وحسن الاستعداد على توتر العلاقات بين البلدين كنتيجة حتمية للاختلاف الفطري بل المحتوم بين زعيمين لهما أصول فكرية وتوجهات سياسية متباينة.ثم يحط بنا الرحال بالجزائر الشقيقة غداة استقلالها في جويلية 1962فكانت شهادته مليئة بالوقائع والأحداث واللقاءات مع قادة هذا البلد ومدى تاثرها بالصراعات والتجاذبات التي نشأت بين القيادة السياسية برئاسة يوسف بن خدة والحكومة المؤقتة والقيادة العسكرية وريثة جيش التحريرالوطني ومجموعة تلمسان او وجدة بقيادة هواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة وما حف بها منذ البداية من ارتجال وارتباك في فترة حكم احمد بن بلة من 1962الى 19 جوان 1965وما سجل من انعكاسات وتبعات على العلاقات مع تونس من أبرزها الخلاف حول رسم الحدود بين البلدين وما عرف بأزمة العلامة 231.فان إقامة سي احمد بالبلاد الجزائرية مكنته من الاطلاع على نشأة الدولة في ظل تحالف بين القيادة العسكرية والحزب الواحد حزب جبهة التحرير الوطني واستئثارهما بجميع زمام السلطة وفرض سياسة التعاضد والتعاونيات على جميع القطاعات وخاصة القطاع الفلاحي لربما كل هذه العناصر كان لها أي تأثير في المواقف اللاحقة لسي احمد لما استقال في جانفي 1968 من الحكومة والحزب احتجاجا على الطريقة القسرية والمتسرعة في تطبيق التعاضد بتونس. تبدو هذه الفترة جد حاسمة ومؤثرة في مسيرة رجل الدولة والسياسي وزادته اعتقادا وتعلقا بتلازم البعدين السياسي والاقتصادي في كل عمل تأسيسي وتنموي في البلدان الناشئة بصفة عامة والنهج الديمقراطي والاختيار الاشتراكي على وجه الخصوص. *الحياة عقيدة وجهاد هو الشعار الذي اختاره سي احمد كاتب الدولة للدفاع الوطني للأكاديمية العسكرية عند تأسيسها بحرص منه في ديسمبر 1967 وقد تميزت هذه الفترة بقراره بالحط بنسبة تفوق 20 بالمائة من مرتبه كعضو للحكومة.