بعد الكشف عن ملامح النتائج شبه النهائية لانتخابات المجلس الوطني التاسيسي برز بين الزعامات والاطراف السياسية فائزون وخاسرون بالجملة.. بصرف النظر عن تشكيلة المجلس المنتخب الذي قد يباشر مهامه مطلع الشهر القادم. الانتخابات لم تفرز فقط 5 احزاب رئيسية فازت بمراتب اولى من حيث عدد الاصوات.. من بين ال116 حزبا و655 قائمة مستقلة كانت في السباق.. والانتخابات لم تكرس فقط تقدما واضحا لمرشحي احزاب النهضة والمؤتمر والتكتل و"العريضة الشعبية".. ولزعمائها راشد الغنوشي والمنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر والهاشمي الحامدي.. فهي لم تكشف فقط عدم اقتناع غالبية الناخبين بقائمات المستقلين بالرغم من الكم الهائل من الكفاءات القانونية والسياسية والعلمية التي شاركت في تلك القائمات..
من بين نتائج الانتخابات "الفوز السياسي" لزعامات سياسية قبلت منذ الدقائق الاولى للاعلان عن النتائج الاولية بخيار الشعب.. واعربت في تصريحاتها بوضوح انها تاسف لعدم فوزها بالاغلبية لكنها هنأت الفائزين وقررت الدخول في المعارضة وبدء الاستعدادات للانتخابات البرلمانية والرئاسية (او احداها) التي قد يقرر المجلس المنتخب تنظيمها بعد عام او عامين.. وكان على راس هؤلاء "الفائزين سياسيا" زعماء الحزب الديمقراطي التقدمي وخاصة مؤسسه وامينه العام الاسبق احمد نجيب الشابي.. والمناضلة مية الجريبي الامينة العامة للحزب.. وكذلك زعيم حزب التجديد احمد ابراهيم الذي تزعم خلال الانتخابات "قطب الحداثة".. وقد حيا بدوره الفائزين واعتبر ان من واجب كل السياسيين الذين لم يفوزوا في الانتخابات الاعتراف بالنتائج والعمل ضمن قوى المعارضة الجديدة للحكومة القادمة والاستعداد للمواعيد السياسية المقلبة بعد القيام بنقد ذاتي لاخطاء تجربة العمل المشترك من جهة وللتشرذم السياسي والحزبي من جهة ثانية بمناسبة انتخابات الاحد الماضي.. وسار في نفس السياق مناضلون سياسيون كبار لم يفوزوا بمقاعد مثل السيد جلول عزونة زعيم الحزب الشعبي للحرية والتقدم والقيادي السابق في حزب الوحدة الشعبية وفي اتحاد الكتاب.
غياب مناضلين من الحجم الكبير
في نفس الوقت لم يكن بين الفائزين في الانتخابات حقوقيون ومثقفون من بين رموز النضال ضد التعذيب والمحاكمات السياسية وضد الفساد والاستبداد خلال العقود الماضية مثل السادة المختار اليحياوي ومية الجريبي وصلاح الدين الجورشي وراضية النصراوي وعبد الفتاح مورو ورضوان المصمودي وزهير مخلوف وشوقي الطبيب وفتحي العيوني والازهر عبعاب والازهر بن يونس والمنصف السليطي... الى جانب خبراء من الحجم الثقيل في القانون الدستوري مثل العميد الصادق بلعيد ونخبة من الجامعيين المرشحين ضمن قائمات مستقلة وحزبية عديدة.. وسيكون المجلس المنتخب سيد نفسه لكن قد يختار اعضاؤه الاستفادة من زهاء 20 مشروع دستور اعده بعض هؤلاء الخبراء والمختصين.. حتى لا يبدؤوا مناقشاتهم من الصفر.. وحتى لا يهدروا طاقاتهم في جهد يمكن ان يستفيدوا فيه من مساهمات علمية لخصومهم "المخفقين" يوم الاقتراع..
الخاسرون.. الخاسرون
في المقابل فان على راس الخاسرين في الانتخابات مئات من الشخصيات والقيادات اليسارية والاسلامية التي انشقت عن حركات واحزاب كانت تنتمي اليها واختارت منافستها تحت يافطة مستقلة او حزبية جديدة.. في هذا السياق لم تفز جل قائمات احزاب ورموز "اقصى اليسار" في جل الدوائرباي مقعد.. فيما يتردد ان بعضها فاز بنسب اصوات قد تمكنه من مقعد واحد في دائرة او اثنتين على الارجح.. بفضل نظام البواقي.. كما لم تفز قائمات "الائتلاف الديمقراطي المستقل-طريق السلامة" بزعامة عبد الفتاح مورو وصلاح الدين الجورشي باي مقعد في الدوائر التي ترشحت فيها في تونس وخارجها.. ولقيت نفس المصير مئات من قائمات المترشحين المستقلين والمتحزبين المنتمين الى "تيارات اسلامية معتدلة" حاولت ان تنافس قائمات حزب النهضة.. على راسها حزب التحالف من اجل النماء والسلم (برئاسة اسكندر الرقيق والازهر عبعاب) والامانة (بزعامة فتحي العيوني) والاصلاح والتنمية (برئاسة محمد القوماني). والعمل والاصلاح.. الخ...
الخاسر الاكبر..
لكن الاكثر خسارة في هذه الانتخابات هي النخب السياسية والعمل السياسي الجماعي.. فقد كشفت الحملات الاعلامية والسياسية والانتخابية التي سبقت الاقتراع ان النخب السياسية والمثقفة في تونس متشرذمة ولا تقبل بسهولة الوفاق والتنازل للاخر والتقيد بشروط العمل المشترك.. هذه المعضلة، اي التشرذم، كانت اهم نقاط ضعف الاحزاب والنقابات والمنظمات غير الحكومية قبل 14 جانفي، واستفحلت بعده.. ولا يخفى ان التشرذم اهدر طاقات الاف النشطاء والمناضلين اليساريين والقوميين والاسلاميين والليبيراليين وازعج الناخبين الذين وجدوا انفسهم يوم الاقتراع مضطرين لان يختاروا بين اكثر من 1400 قائمة و15 الف مترشح.. فصوت الغالبية "للاحزاب التقليدية" وخاصة للاطراف السياسية التي عرفت بمعارضتها "الراديكالية" للنظام السابق ثم لحكومتي السيدين محمد الغنوشي وحكومة الباجي قائد السبسي..
ولئن كان من ابرز النتائج السياسية المتوقعة لانتخابات الاحد الماضي "الانسحاب النهائي لغالبية الخاسرين في الانتخابات" وخاصة "للاحزاب الايديولوجية والعائلية"، فان اكبر المستفيدين منها هو الشعب التونسي الذي نجح -رغم العراقيل- في تنظيم اول انتخابات ستفرز قيادة شرعية.. تستمد مشروعيتها من صناديق الاقتراع.. في عملية شاركت فيها نسب قياسية عالميا.. مما جعل الرئيس الامريكي اوباما وكبار الساسة في فرنسا واوربا والعالم اجمع ينوهون مرة اخرى بروعة الشعب التونسي ووعيه ونضجه وقدرته على البناء وتقديم نموذج سياسي تعددي جديد لشعوب المنطقة..