بقلم : عبد المجيد ميلاد زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون، هكذا قالها فلاح الثمانين لملك الفرس كسرى أنو شروان، عندما سأله الملك لماذا يغرس شجرة لا تثمر إلا بعد سنوات وهو في سن متقدمة فأصبح الناس يتداولون هذه الحكمة جيلا بعد جيل إلى يوم الناس هذا. وهو عكس ما وقع في ثورة 14 جانفي حيث أن الشباب هو الذي غرس بذور الثورة و رعاها، و الشيوخ والكهول هم الذين يجنون حاليا ثمارها وبقي الشباب يتفرج عازفا عن المشهد السياسي في حيرة من أمره، و الحال أن الشباب هو الذي استخدم مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة، وكسّر جدار حجب المعلومة الفولاذي الذي اعتمده النظام السابق، ونشر وقائع الثورة حينيا بالصورة و النص و الصوت، و بلور شعاراته و أفكاره التي عجلت برحيل بن علي. ثم هرع الشيوخ من كل صوب وحدب ليتزعموا المشهد السياسي، منهم من غادر البلاد منذ سنوات عديدة، و درس أبناءه في أرقى الجامعات العالمية، فنالوا أرقى الشهائد العلمية و هم يعملون اليوم في أحسن المؤسسات العالمية. و منهم الكثير من التجمعيين الذين نشطوا إلى آخر يوم في نظام بن علي، ثم لبسوا فجأة جلباب الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة و سموا أنفسهم بالدساترة، و نسوا أنهم تغافلوا أو شاركوا في عملية نفي بن علي لبورقيبة لمدة 13 سنة كاملة. و لم يسرحه من منفاه إلا الموت. هؤلاء الشيوخ ترأسوا الأحزاب و الهيئات و الجمعيات. و غلقوا كل المنافذ أمام الشباب حتى عندما حاولوا إعانتهم على إنجاح الانتخابات حين اقترح فريق من الطلبة و الباحثين في المعهد العالي للإعلامية والرياضيات بالمنستير منظومة معلوماتية تؤمن انتخابات المجلس الوطني التأسيسي بواسطة الإنترنت. و أوضح الشاب محمد شعبان، رئيس الفريق وهو أصيل مدينة صفاقس، أن الانتخابات بواسطة الإنترنت توفر إيجابيات وضمانات لا يمكن أن توفرها الانتخابات التقليدية كربح الوقت والشفافية وعدم التزوير وتحقيق نسبة مشاركة مرتفعة سيما في صفوف الشباب و أكثر من مليون تونسي مقيم بالخارج. علما أن هذه المنظومة تأخذ بعين الاعتبار مجموعة من القواعد و الضوابط من بينها اعتماد بطاقة التعريف الوطنية كوثيقة قانونية أساسية إلى جانب رقم سري لكل ناخب يتم تسجيله مسبقا. فجاء رد الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي بالنفي القاطع بتعلّة أن هذه الطريقة تتطلب وضع الإطار القانوني اللازم لذلك. فما الذي يمنع رجال القانون و خبراء الإعلامية أن يجتمعوا معا ويعدّوا الإطار القانوني اللازم لتأمين إجراء الانتخابات بواسطة الإنترنت ؟. و لكن المصلحة اقتضت أن يكلف رجال السبعون و الستون و الخمسون سنة بالإعلامية. .. صرفت المليارات في المعدات و الشبكات و البرمجيات و الخوارزميات، على مرأى و مسمع من دائرة المحاسبات. و النتيجة هي تمديد موعد الانتخابات من 24 جويلية إلى 23 أكتوبر بدون موجب و بالتالي تمديد معاناة الشعب التونسي من فترة انتقالية لا شرعية، وإحداث بنك معطيات انتخابية ملوثة بالأموات مما دفع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات للجوء إلى ضرورة استعمال الحبر في عملية التصويت على طريقة البلدان الفقيرة و المتخلفة. كما لوحظ عزوف الشباب عن التسجيل الإرادي و المشاركة في المشهد السياسي، و حرمان سكان بعض المناطق الداخلية و الجاليات في الخارج و أفواج الحجيج من التصويت لبعدهم الجغرافي عن مكاتب الاقتراع. ثم يخرج علينا هؤلاء الشيوخ ليتباهوا بنجاحهم في الوصول بنا إلى موعد انتخابات المجلس التأسيسي. حتى إن تم اجتياز هذا الموعد بسلام فبأي ثمن يا ترى ؟ النمو الاقتصادي تحت الصفر، البطالة تتفاقم و تعمق جرح العائلة التونسية، الحليب شبه مفقود في الفضاءات التجارية، و قوارير الماء كذلك، و أربع بيضات (حارة) بسبعمائة مليم، وهلمّ جرا. ولماذا لم يعترفوا بفشلهم في أمور أخرى تعتبر أساسية مثل موعد 24 جويلية وهو أول موعد سياسي هام ضبطوه بأنفسهم ووعدوا به الشعب و لم يحترموه. و كذلك مراقبة مصادر أموال الأحزاب و المال السياسي و تأمين انتخابات شفافة، ووضع خطوط تأليفية بخصوص محتوى الحملة الانتخابية تجعل المترشحين يتحدثون عن الدستور كمادة أساسية و لا يركزون كما يفعلون حاليا على برامج اقتصادية وتنموية تهم أساسا المراحل السياسية القادمة، واعتماد ما يمكن أن توفره تكنولوجيا المعلومات و الاتصال لتجنب الحبر عند عملية التصويت و إسداء خدمات مفيدة عن بعد للمواطن. مع هذا فإن لي ثقة تامة في الشباب التونسي و أرجوهم أن لا يتركوا هؤلاء الشيوخ المهترئين يستحوذون بمفردهم على دواليب تسيير شؤون البلاد. مهندس مختص في تكنولوجيا المعلومات و الاتصال