من الحقائق المرتبطة بآفة الفساد أن الدول الاسكندنافية والدول الاكثر تقدما تبقى الاكثر شفافية والاقل فسادا, في حين أن دول العالم الثالث تظل في أسفل الترتيب كلما تعلق الامر بالفساد والرشاوى حتى أن حجم الفساد والرشاوى الحاصل في العالم العربي يكفي لتشغيل عشرين مليون عاطل عن العمل على اعتبار أن الامر يتعلق وفق البنك الدولي بثلاث مائة مليار دولار سنويا وهو نصف الناتج المحلي الاجمالي للعالم العربي والمقدر ب770 مليار دولار... الفساد أشبه بالسرطان وهو اذا ما بدأ في الانتشار فلن تقف أمامه كل الادوية واذا تحول الى ظاهرة وتمكن من العقليات فان النهاية بالتأكيد السقوط والافلاس... النرويج بالتأكيد ليس بلدا فقيرا أو محدود الموارد ومع ذلك فان الوزير في هذا البلد ليس له حارس خاص أو سائق وهو يتنقل شأنه شأن بقية مواطنيه في وسائل النقل العمومي أما في اليابان فان مكتب أي وزيرعلى درجة من التواضع الذي تغيب معه كل أبهات البهرج والفخامة وقيمة أي مسؤول حكومي في اليابان لا تقاس بمحتويات مكتبه ولكن بفاعلية دوره في صنع الحياة السياسية... نقول هذا الكلام ونحن نكتشف يوما بعد يوم ما تضمنه تقريراللجنة المكلفة بالفساد والرشاوى من أخبار الفساد والمفسدين الذين عبثوا بممتلكات البلاد والعباد، وهو التقرير الذي برغم كل ما تضمنه من فضائح فقد لايكون أكثرمن قطرة ماء في طوفان الفساد المستشري بين مسؤولي النظام السابق ممن لم يتوانوا في تقديم مساحات مهمة من الاراضي الشاسعة في مواقع استراتيجية هدايا مجانية لامراء أو ملوك أو وزراء أجانب لقاء خدمات وأطماع شخصية أو من صفقات في القطاعين العام والخاص لتحقيق مكاسب خيالية والثراء اللامشروع في مختلف القطاعات وهي حقائق بات لزاما على الرأي العام الذي ما انفك يطالب بمحاسبة أصحابها أن يكون متحفزا لرصدها ومنع تكرارها تحت أي ذريعة أوفي ظل أي حكومة أو نظام في المستقبل... مرة أخرى تعود الى الذاكرة حكاية عمدة مدينة استوكهولم عضو البرلمان السويدي التي اتهمت بالفساد وخضعت للقضاء ودفعت الثمن غاليا من مسيرتها السياسية لانها أقدمت على استخدام بطاقة حكومية لاستخلاص ثمن الوقود لسيارتها الخاصة مرة واحدة حيث صرحت بأنه لم يكن معها في ذلك اليوم ما يكفي من المال الا أن مجرد تقديمها هذا الاعتراف كان كفيلا بتحميلها تهمة خيانة الامانة لتتحول بذلك القضية الى مسألة وطنية تتعلق بسمعة الوطن... وبعد سلسلة من التحقيقات لم يكن أمام المسؤولة السويدية سوى الاستقالة لترفع عضويتها من البرلمان، أما بقية الحكاية فهي معروفة وهي بالتأكيد مختلفة عما يحدث في دول العالم الثالث من تجاوزات وخروقات يومية تثقل كاهل الشعوب وتزيد في أعباء دافعي الضرائي فالمسؤولون يتمتعون بخدمات تفوق في أحيان كثيرة ما يقدمونه من جهود،بل ان المنصب الوزاري في المجتمعات التي لم تتعود على ثقافة المحاسبة والمراقبة عندما يتعلق الامر بالمال العام يعني بالنسبة للكثيرين اسطول من السيارات في خدمة السيد الوزير وحرم السيد الوزير والابناء وحتى الاصدقاء على سبيل الذكر لا الحصر... يخطئ اذن من يعتقد أن صدور التقرير الاولي للهيئة المكلفة بالفساد والرشوة سيكون كفيلا بوضع حد لهذه الافة السرطانية التي كلفت وتكلف البلاد والعباد ما لم يكن أحد يتوقعه, ويخطئ أيضا من يعتقد أن مجرد صدورمرسوم يتضمن استراتيجية عامة لمقاومة ظاهرة الفساد واستحداث هيئة مستقلة ودائمة لتعزيز عملية مكافحة الفساد سيخلص المجتمع نهائيا من التداعيات الخطيرة في الحاضر والمستقبل للفساد كظاهرة لا يبدوحسب التقارير الدولية أن هناك مجتمع من المجتمعات في منأى منها حتى وان اختلفت درجات استشراء الفساد من بلد الى أخر... وما اجماع الاسرة الدولية على أن يكون يوم التاسع من ديسمبرمن كل عام يوما دوليا لمكافحة الفساد سوى اقرار بهذه الحقيقة التي تستوجب أكثر من مجرد سن القوانين لاجتثاث الفساد واقتلاعه. ومن يدري فلعل ما لم يفتح حتى الان من ملفات لا تزال قيد التحقيق من شأنها أن تحمل معها المزيد من أخبار قطعان العصابات التي استباحت جهود وعرق المستضعفين واستنفذت كل الطرق والاسالبيب لتحويل خيرات البلاد الى منافع لها في الداخل او لتطعيم أرصدتها بالخارج. لقد ساعد سقوط الانظمة الفاسدة من تونس الى مصر وليبيا في كشف المستور عما خفي من ممارسات أن أنظمة كانت تعتقد أنها محصنة من المساءلة والمحاسبة الشعبية... ومرة أخرى اذن قد لا يكون من المبالغة في شيء الاقرار بأنه لا أحد ربما باستثناء قلة محدودة من المقربين من النظام السابق كانوا يدركون حجم وجذورالفساد الذي يبدو أنه لم يستثن قطاعا واحدا من القطاعين الخاص والعام وأنه والى أن يأتي ما يخالف ذلك فان الاستثناء ربما لم يشمل غير تجارة الاكفان والموتى وفي ذلك ما يكفي من الاسباب للدعوة لفضح وملاحقة ومحاسبة كل من يسمح لنفسه باستباحة ذرة من تراب تونس... آسيا العتروس