إن المشهد السياسي في تونس هذه الأيام في ظاهره تعدديّ فنحن إزاء مجلس وطني تأسيسي منتخب فيه عدة حساسيات سياسية وعدة ألوان حزبية ومستقلين إلخ ولكن نخشى أن تقتصر الأمور على الظاهر وأن لا يعكس الباطن ما يتوق إليه التونسيين من حياة سياسية تعددية حقيقية تخول لنا أن نعلن بدون تردد أن صفحة الحزب الواحد والرأي الواحد قد طويت فعلا وليس افتراضا. فبعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي يتّفق على أنّها دارت في كنف الشفافيّة وانتهت إلى ما انتهت إليه من نتائج ووضعت حزب حركة النهضة ذوالمرجعية الإسلامية في طليعة المنتفعين من تغيير الخارطة السياسيّة في البلاد تغييرا كما هو معروف فرضته إرادة الشعب التونسي فرضا إثر ثورة شعبيّة عارمة أكرهت الرئيس السابق ليس فقط على مغادرة الكرسي بل وكذلك على الفرار من البلاد. بدأت التساؤلات تطرح حول مدى استعداد الفائزين في الإنتخابات لإحترام تطلّعات التونسيين ومدى حرصهم على الإستماع لنداء التونسيين الذين خرجوا إلى الشوارع تلقائيا وبدون قيادات حزبية وبدون زعامات وبدون إيديولوجيات وبدون خلفيات أو مرجعيات أي كان مصدرها من أجل الحرية والكرامة.
الظاهر والباطن
صحيح تحتل الأمور الشكليّة في الديمقراطية مكانة كبيرة ويبدو أن الفاعلين السياسييّن اليوم يبذلون جهودا من أجل احترام الشّكليات فقد تم منذ الجلسة الأولى للمجلس الوطني التأسيسي (22 نوفمبر) انتخاب رئيسا للمجلس في ظل منافسة ظاهريا موجودة في انتظار أن يستكمل المجلس تكوين لجانه المتعددة والمتخصصة. على مستوى الشكل دائما وبعد أن يقع انتخاب رئيس الجمهورية المؤقت الذي بدوره سيكلف رئيس الحكومة بتشكيل الحكومة المؤقتة نمر بطبيعة الحال إلى المهمّة الأساسية وهي الإعداد لدستور جديد للبلاد نعلن من خلاله عن تأسيس الجمهورية التونسية الثانية. على مستوى الشكل وباستثناء ربما ما أعيب على الإئتلاف الثلاثي الذي يتكون من الأحزاب الثلاثة المتحالفة وهي حزب حركة النهضة وحزب التكتل من أجل العمل والحريات وحزب المؤتمر من اجل الجمهورية أنه تولى الإعلان قبل الجلسة الأولى للمجلس عن توافق حول الترشحات للمناصب العليا في البلاد (رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس التأسيسي ورئاسة الحكومة) وقرأ منها البعض مساسا من سيادة المجلس فإنه تم احترام الشكل والشكل كما سبق وذكرنا مهم جدا في الديمقراطية ولكن إذا ما عدنا إلى المستوى الآخر للحياة السياسية الجديدة في تونس فإنه يمكن الخروج بعدة ملاحظات تبرّر ربما رغبتنا في أن نكون محترزين بعض الشيء بشأن بلوغ مرحلة التعددية السياسية الحقيقية وليست الصورية. ربما مازال على التونسيين الانتظار بعض الوقت لأنه لا يمكن لنا أن ننطلق فقط من فكرة وجود ثلاثة أحزاب تهيمن على المشهد السياسي الحالي كي نعلن أننا دخلنا في تونس عهد التعددية السياسية الحقيقية. أولا وإن كان حزب حركة النهضة لا يتمتع بالأغلبية المطلقة في المجلس التأسيسي فإنه يحظى بفارق كبير في عدد المقاعد وفي عدد الأصوات التي حصل عليها وهو ما يجعله يتحكم في تحريك القطع فوق رقعة الشطرنج بشكل مريح خلافا لحليفيه. ثم إن الأحزاب المتحالفة مع حزب حركة النهضة وخاصة إذا ما عدنا إلى تصرفات وتصريحات قادتها وأبرز كوادرها أعطت الإنطباع أنها في وضع أقرب إلى الإمتنان منه إلى المشاركة الند للند في الحياة السياسية. وقد ينطبق هذا الأمر بالخصوص على حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي بدا وكأن أبرز شواغله بلوغ قصر قرطاج. ثانيا لا يمكن أن تكون مواقف الأحزاب الثلاثة ومنذ الإعلان عن نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي مطمئنة بشأن حرصها على الإنفتاح على مختلف الحساسيات السياسية على الأقل تلك التي فازت بمقاعد في المجلس. فإن كان الحزب الديمقراطي التقدمي أعلن منذ البداية انخراطه في المعارضة فإن أحزاب أخرى عبرت عن نيتها في المشاركة في مختلف أوجه الحياة السياسية خلال هذه الفترة الإنتقاليّة المهمة.
الاختيار بين هؤلاء الثلاثة فحسب
إنتظرنا وربما يحسب هذا على المثالية والسياسة كما هو معروف لا مكان فيها للمثالية، انتظرنا حركة ما يفهم منها نية أو رغبة في الإنفتاح على الأحزاب التي ليس لها أغلبية تمثيلية على الأقل من خلال ترشيح اسم واحد لمنصب نائب رئيس المجلس الوطني التأسيسي. لكن كأنه على التونسيين اليوم الإستسلام لقدر واحد: النهضة والمؤتمر ثم التكتل ولا أحد غيرهم أو من خارج السرب وهم واحد اليوم لأن مصلحتهم تقتضي ذلك. اليوم مصير تونس في يد ثلاثة أحزاب مصلحتها واحدة. والسؤال المحيّر فعلا أي دور للمعارضة داخل المجلس؟
السؤال كذلك هل خرجنا فعلا من هيمنة الحزب الواحد؟
السؤال مشروع وإن كانت هناك ثلاثة أحزاب وليس حزبا واحدا تسيطر على المشهد السياسي الجديد. فإن مدّ حزب حركة النهضة يده للحزبين الآخرين فإن ذلك لا يمنعه من أن يحتفظ لنفسه بنصيب الأسد من المناصب ومن مواقع القرار الهامة. فهذا الحزب ومثلما بدا ذلك واضحا منذ اليوم الأول لعمل المجلس التأسيسي يحتفظ لنفسه بوجود في كل الأمور الحاسمة دون أن ننسى ما يتناقل من أخبار حول المناصب الوزارية. وهي أخبار وإن مازالت في حاجة إلى تأكيد فإنها قريبة من الواقع. كل وزارات السيادة من داخلية وخارجية ودفاع وعدل يبدو أنها في طريقها إلى أسماء من حزب النهضة والحزب وإن تنازل عن رئاسة المجلس التأسيسي فإنّه وضع نائبة للرّئيس من بين أعضائه. حزب حركة النهضة لم يسرق فوزه وهو لم يفرض حسب ما هو ظاهر لا على حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ولا على التكتل من أجل العمل والحريات التحالف معه ولكن ذلك يذكّرنا مع ضرورة احترام الفوارق ومع التنبيه إلى عدم رغبتنا في الحكم على الناس قبل أن يأخذوا فرصتهم كاملة, يذكرنا بالحزب الحاكم السابق والمنحل الذي كان مهيمنا على السلطة ولا يرفض دعم من يطلق عليهم ب"المؤلفة قلوبهم". أي هؤلاء الذين هم ليسوا منتمين له وليسوا ضده كذلك.