بقلم: الصغير الزكراوي تمثل ثورة 14 جانفي لحظة تاريخية فارقة تضاهي في أهميتها الإستقلال. ويمكن أن تشكل هذه اللحظة منعطفا يمهد للإنعتاق من الإستبداد وتهيئة المناخ الملائم لتشييد مجتمع قائم على مبادئ الديمقراطية. وقد تميزت المرحلة الانتقالية من الحكم الفاقد لأدنى مقومات المشروعية بغياب إرادة سياسية في تفكيك منظومة الفساد والإستبداد والإسراع بإجراء محاكمات جادة لبقايا نظام بن علي وأزلامه الذين لا يزالون ماسكين بمصادر القرار في أكثر من موضع ومتموقعين في مفاصل السلطة داخل أجهزة الدولة. كما تميزت بإفلاس أخلاقي منقطع النظير إذ نلاحظ بروز شريحة من الإنتهازيين والمتملقين والمتلونين الذين جردوا الثورة من بعدها الأخلاقي. 1- إفلاس أخلاقي تشكل الثورة لحظة أخلاقية كبرى la révolution est un grand moment d'éthique فهي لحظة نقاوة وسموّ. وكان من الضروري عندئذ أن يترجم هذا على ارض الواقع بتولي وجوه جديدة ورجالات لم تتورط من قريب أو من بعيد مع نظام بن علي السيء الذكر وتولي قيادة المسار الانتقالي، لكن العكس هو الذي حصل فالذين كرمهم بن علي وأغدق عليهم بنعمه هم الذين نصبوا أنفسهم رجالات هذه المرحلة، فهل يعقل أن يتولى زمام الأمور من يحمل على صدره أوسمة بن علي؟على غرار رئيس الهيئة العليا لإجهاض أهداف الثورة الذي كان عليه أن يبين علاقته بالثورة والأمر نفسه ينسحب على رئيس تولي الحقوق على الرشوة والفساد. والحال أن المطلوب هو التأسيس لمجتمع تحكمه مبادئ وقيم تقطع مع تلك التي كانت سائدة في العهد البائد. إن تغييب البعد الأخلاقي لهو انحطاط ما بعده انحطاط يفرغ الثورة من مراميها السامية والنبيلة. وفي ظل فراغ تشريعي في أكثر من ميدان كان من الواجب الإحتكام إلى الضوابط الأخلاقية. 2- حكومة تصريف الأقوال ورهن الأجيال وعد الوزير الأول الشعب عند توليه منصبه بإعادة هيبة الدولة ووضع حد للإنفلات الأمني ومعالجة الشأنين الإقتصادي والإجتماعي وإجراء انتخابات التأسيسي في موعدها. غير أن المتابع للشأن العام يلاحظ تدهور الأوضاع أمنيا والتأزم إقتصاديا والإحتقان إجتماعيا. وقد اعتمد الوزير الأول في إدارة شأن البلاد أسلوبا بورقيبيا استأثر من خلاله بممارسة السلطة في تعيين كبار الموظفين والسفراء واختيار مساعديه ووزرائه متجاهلا الرأي العام الذي تحفظ على بعض الأسماء التي لا مكان لها في إدارة هذه الرحلة. وهذا الأسلوب التسلطي الإستفزازي في ممارسة السلطة ضاعف حالة الإحتقان وجعل الناس يقتنعون بأن لا شيء تغير في البلاد وأن نظام بن علي يعيد إنتاج نفسه. وبالإضافة إلى ذلك، ولمجابهة الصعوبات الإقتصادية جنح إلى القروض وتبنى منوالا إقتصاديا تسوليا من شانه أن يفضي إلى ارتهان البلاد. وهذا التمشي في إدارة الشأن العام ليس من صميم حكومة مؤقتة دورها يقتصر على تصريف الأعمال وهو ما يمثل تجاوزا لسلطاتها التي لا تخول لها سوى معالجة المساءلة العاجلة التي لا تقبل الانتظار. 3- تلكؤ في تفكيك منظومة الفساد والإستبداد يعد تفكيك هذه المنظومة التي تنخر النسيج الإقتصادي والإجتماعي أحد أهم وأوكد مهام الحكومة المؤقتة التي كان عليها أن تعجل بفتح ملفات الفساد المالي والسياسي ومحاسبة رموزها من مسؤولين سابقين ورجال أعمال. كما كان على هذه الحكومة أن تمهد لهذا العنوان الكبير بتطهير سلك القضاء الذي انتشرت فيه مظاهر الرشوة والفساد وكان الأداة الطيعة التي استعملها النظام البائد لكسر عظام خصومه. والمتتبع لمحاكمات الرئيس المخلوع وزوجته وأصهاره وأقاربه وبعض معاونيه يلاحظ أن الإحالات تتعلق بجرائم حق عام والحال ان ما اقترفه هؤلاء يتمثل في الخيانة العظمى والتخابر مع الأعداء والنيل من اقتصاد البلاد وتجويع شعب بأكمله. وما يجري حاليا من محاكمات هو ضحك على الذقون. وما يؤكد هذا إقدام القضاء على الإفراج على بعض الحيتان الكبيرة وإقدام البعض الآخر على مغادرة البلاد. إن تفكيك منظومة الفساد يستوجب إرادة سياسية جادة لم تتوفر لدى الحكومة المؤقتة التي يبدو أنها تبدي تعاطفا كبيرا مع بقايا التجمع المنحل غير المأسوف عليه. أستاذ القانون العام والعلوم السياسية