بقلم: خميس الشايب تمكن الشعب التونسي في الأشهر الأخيرة وباستحقاق كبير -- من شد انتباه العالم بأسره، مما جعل الكثيرين يتحدثون عن منوال تونسي يحتذى به شرقا وغربا. فمن الثورة العارمة دون توقع، ومن حصر المطالبة في الكرامة والحرية، وليس السلطة أو الخبز، إلى المستوى المتحضر جدا الذي اتخذه ما تلا الثورة من حوار ونقاشات، ثم إلى الانتخابات وما صاحبها من دروس في التحضر الراقي، مشاركة واقتراعا وقبولا بحكم الصندوق، دون أن ننسى درجة الوعي ودرجة الحس السياسي اللتين أفرزتا خارطة سياسية نشقى الآن في فهم أبعادها العميقة. وما نتمناه اليوم من حكامنا الجدد هو العمل الجدي على احتضان هذا التميز بالريادة، وتعزيزه لدى الشعب التونسي، ليس في المجال الرياضي أو الفني فحسب، ولا حتى في المجال السياسي و»الثوري»، ولكن بالخصوص في مستويين أساسيين هما الريادة في العلم والريادة في العمل. لا يمكن أن نتقدم أو نسهم في الحضارة الإنسانية بإيجابية دون إعطاء العلم والتكنولوجيا الأولوية المطلقة في حياتنا وحياة أبنائنا من التعليم بمراحله، إلى البحث العلمي، إلى مخابر المؤسسات والمصانع، وإلى تربية أبنائنا في البيت. باختزال، هي عقلية غائبة اليوم ويتعين السعي إلى غرسها في المجتمع التونسي، دون تحويلها إلى شعارات لتحقيق مآرب سياسية. هذه هي الأمنية الأولى التي نتوجه بها إلى حكامنا المنتخبين. أما الأمنية الثانية فهي أن نعيد لقيمة العمل المكانة الرفيعة والملهمة التي تستحقها. فالمطلوب من الحكومة إيجاد المناخ الملائم لانتعاش قيمة العمل في كل الأوساط الاجتماعية، أولا باعتماد الكفاءة والتميز في العمل كمعيارين للانتداب والترقية والمكافأة، بعيدا عن المحاباة والآلية، وثانيا بتغيير عقلية «نخدملهم على قد فلوسهم» و»رزق البيليك» وتعويضهما بتقديس العمل ونبذ التواكل. في بلدان أخرى، يوجد مرض يعالج في المصحات يسمى ما معناه إدمان العمل وهو يجعل المصابين به يعملون ست عشرة ساعة يوميا وأكثر، ويرفضون العطل، دون انتظار مقابل على ذلك. عندنا، لم أجد بعد العبارة الدقيقة لترجمة هذا المفهوم. ولعل الأمنية الأهم في هذا السياق هي إعادة ثقة شبابنا بنفسه وتمكين كل شاب وشابة من اكتساب مثل أعلى للإنجاز أو للاقتداء به. فلو وقفنا في أية نقطة من شوارع مدننا وسألنا أول مائة شاب يمرون بنا عن المستقبل الذي يتطلعون إليه، فإننا قد نجد من يحلم بأن يصبح نجما رياضيا أو فنيا أو أن تتوفر له الفرصة «للحرقان»، وقد يرد البعض بأن حلمهم هو تكوين ثروة من «البروموسبور» أو مجرد بناء منزل واقتناء سيارة والعثور على «بنت أو ولد الحلال»، وكل حسب همته. لكن يصعب جدا أن نظفر بمن يصبو إلى نيل جائزة نوبل، أو يحلم بالتوصل إلى اكتشاف طريقة تسمح باستغلال طاقة الذرة عن طريق الانصهار لا الانشطار، أو يسعى إلى المساهمة في اجتثاث الجوع والأمراض من العالم الثالث، أو قيادة البلاد على درب التقدم. لا شك أن تطوير هذه العقلية المستقيلة وتعويضها بعقلية ملهمة، تطبيقا لما جاء في الأثر «لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله»، يتطلب جهدا عظيما، لكنه ليس بالمستحيل. ونحن في حاجة إلى قيادة تنير أمامنا الطريق في هذا الاتجاه. لقد أدرك ذلك وحققه محاظير محمد، الوزير الأول الماليزي السابق. فحين تولى الحكم منذ ثلاثين سنة قال إنه يريد أن يجعل من ماليزيا في ظرف 25 عاما «بلدا مسلما ومتقدما». وفعلا كان له ولماليزيا ما وعد به، فغادر الحكم بعد أن قضى فيه حوالي ربع قرن. إن من حقق معجزة ماليزيا هو شعبها رغم ما كان يشكوه من تخلف وتعقيد في التركيبة الاجتماعية، لكن الإلهام جاء من القيادة. ويبدو أن تركيا اليوم تنحو المنحى ذاته. لكن العلم والعمل، على أهميتهما القصوى، لن يكونا مفيدين بالضرورة إن لم يترعرعا في مجتمع تحكمه المبادئ والقيم. ولعل من أبرز القيم التي يحتاجها مجتمعنا اليوم قيمة الاحترام -- احترام بعضنا البعض، واحترام خلافاتنا، واحترام الوقت، واحترام القواعد القانونية والأخلاقية والمهنية المنظمة للحياة الاجتماعية بصفة عامة. إن المتجول في شوارعنا اليوم يرى العجب نتيجة غياب الحدود الدنيا للاحترام وللمبادئ، في حين أن مجتمعا بلا مبادئ تحظى بالحد الأدنى من الوفاق لا يمكن أن يذهب بعيدا على درب الحضارة. لقد قال بعضهم، «حضارة قوم ماضيهم وحضارة قوم حاضرهم». ما تستحقه الأمة اليوم هو أن تكون الحضارة مستقبلها.