بقلم: الدّكتور ياسين الهرابي لقد كان لي الشرف رفقة بقية أعضاء القائمة المستقلة «تونس الانطلاقة»، دائرة مدنين، للمساهمة في العملية الانتخابية، وهي تعتبر أوّل تجربة ديمقراطية في تاريخ تونس، التي جاءت بعد ثورة الحرية والكرامة، ثورة ضد الفساد والإستبداد وضد تهديم الفرد وتجريده من القيم الإنسانية النبيلة ومن حقّه في ثقافة راقية وفي تعليم غايته بناء الإنسان على أسس صحيحة. قامت ثورة الحرية والكرامة من أجل العدالة الاجتماعية ومن أجل القضاء على الفقر والظلم ومن أجل مقاومة الاختلال بين الجهات ومن أجل إصلاح الإدارة وجعلها في خدمة المواطن ومن أجل المساهمة الفعالة في أخذ القرار والمرور من وضعية المواطن المهضومة حقوقه إلى المواطن المسؤول والفاعل في مصيره ومصير أسرته ومصير وطنه. إنّ التّحليل الموضوعي والدراسة العلمية لهذه الثورة التي فاجأت النخب والعالم يجرنا إلى استنتاج مهم وأساسي: الانطلاق من الفرد من أجل كرامته وحريته وحقوقه لغاية البناء وتأسيس دولة جديدة ومجتمع جديد. إنّ سعي الفرد لتحقيق أهداف هذه الثورة هو أساسا سعي لبناء نفسه من جديد والتخلص من رواسب الاستبداد والفساد وانحلال المجتمع. هذا البناء أول حجر أساسه القضاء على الخوف ثم الإحساس بالمسؤولية والاعتزاز بهذا الوطن. لذا كان تركيزنا في برنامجنا الانتخابي على ضرورة بناء الفرد وإصلاحه لبناء مشروع مجتمع جديد. كان جلّ المترشّحين والقائمات تدعو إلى كتابة دستور ديمقراطي للقطع النهائي مع الماضي وبناء نظام سياسي أساسه التّداول على الّسّلط والفصل والتكامل بينها والرّجوع للشّعب. هذه الأهداف نتفق عليها جميعا، لكن التّركيز على الفرد في كتابة الدّستور يجب أن يكون من أولويات المجلس التّأسيسي المنتخب. حيث لابدّ من التّنصيص على: - ثقافة راقية حق لكل مواطن وواجب على الدّولة توفيرها له، ثقافة متجذرة في الحضارات التي مرت علينا ومتفتّحة على العالم الخارجي. - تكريس القيم النبيلة والمحافظة على الأخلاق الإنسانية في كل الميادين من العائلة إلى الدولة. - اعتبار العمل والإحساس بالمسؤولية كقيم لابد من تكريسها في الفرد والمجتمع. هذا هو حسب رأينا من أهم ما يجب الترّكيز عليه وجعله من أولوياتنا للتقدم والتحرّر. ولعلّ متابعتنا الحالية للوضع السياسي تدعم هذا الطرح حيث نلاحظ: - التركيز على الهوية في النقاشات السياسية وهذا التركيز يعبّر عن انعدام رؤية واضحة للمستقبل. فهل بطرح هذا الموضوع يمكن البناء والتنمية الفرديّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة؟ إنّ اللّجوء لهذا الموضوع وفوز حزب معيّن له مرجعية دينية هو علامة واضحة على حاجة المواطن لإطار لمحاولة إصلاح ما بنفسه. إن التّركيز على الهوية في هذه المرحلة بالذات واستعمالها لغايات سياسية أعتبره مغالطة للمواطن التّونسي. إنّ هذا الموضوع يمكن معالجته في أطر ومنابر ثقافية وفكرية وهو أوّلا وأخيرا ليس أولويّة هذه المرحلة وعوض التّركيز على الهويّة كان بالإمكان التّفكير في النّصوص الدّستوريّة التي تسمو بالفرد وفكره وثقافته وتأصّله. إنّ أوّل عبارة توجه بها الله لرسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم هي «إقرأ» ومن هذا المنطلق يمكن أن نؤكّد بأنّ الأساس لأيّ تأسيس أو بناء هو الفرد والفكر والثقافة. - النقطة الثانية التّي نلاحظها عند متابعتنا للمشهد السّياسي هي انعدام أسس أخلاقية للعمل السياسي. مع الأسف الشديد نلاحظ لهفة على السلطة وابتعادا عن أهداف الثّورة. وهذا الابتعاد أعتبره سلوكا غير أخلاقي وانتهازي. بداية بالعملية الانتخابية وما شابهها من ممارسات خارقة للقانون الانتخابي حيث لاحظنا استعمال المساجد كوسيلة ضغط على المواطن (صوّتوا لمن يخاف الله) ومن أين لهم، بعض الأئمة، القدرة على الفصل بين من يخاف الله ومن لا يخافه؟؟؟ كما لاحظنا قوة المال وتأثيرها على الاختيار وخاصّة في الفترات الأخيرة من الحملة الانتخابية. إنّ هذه الممارسات التي نلاحظها ولم تمر سنة كاملة على الثورة علامات غير مطمئنة على مصير الديمقراطية في تونس. -النقطة الثالثة التي بانت للجميع وهي ايجابية ومشرفة لتونس ولأبنائها تتمثل في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ولقد أظهر أعضاؤها نزاهة وحبّا للعمل وللوطن. إنّ التّنصيص في الدّستور القادم على الهيئة المستقلة للانتخابات كمؤسسة دائمة للإشراف على المواعيد الانتخابية القادمة وللتّكوين والتّثقيف السّياسي ضرورة ملحّة ومصيريّة. -النقطة الايجابية الكبيرة الأخرى التي ظهرت جليّا في هذه الانتخابات هي قابلية واندفاع المواطن التونسي لإنجاح الديمقراطية وتكريسها. لاحظنا رحابة صدر المواطن في الحملة الانتخابية وقبوله الحسن لهذه التجربة رغم التّعدد الكبير للقائمات المتنافسة. ولاحظ الجميع الإقبال الهائل للمواطن وصبره يوم 23 أكتوبر. وبهذه النقطة أختم متمنيا أن يكون رجال ونساء السياسة عند المستوى ولا يخيّبوا ظنّ المواطن لأنّ ثقة المواطن في السياسة ورجالها ونسائها ضروريّة لبناء ديمقراطية صحيحة ودائمة.