سجل مشروع قانون التنظيم المؤقت للسلط العمومية المقترح من قبل اللجنة التأسيسية الخاصة المكلفة باعداد مشروع الدعوة إلى مبدا الاستفتاء وذلك انطلاقا من قاعدة الفصل 3 من المشروع والتي تنص على انه" يصادق المجلس الوطني التأسيسي على الدستور فصلا فصلا بالأغلبية المطلقة من أعضائه... ثم تتم بعد ذلك المصادقة على الدستور برمته بأغلبية الثلثين من أعضاء المجلس وإن تعذر ذلك فبذات الاغلبية في قراءة ثانية في اجل لا يزيد عن شهر من حصول القراءة الاولى وان تعذر ذلك مجددا يتم عرض مشروع الدستور برمته على الاستفتاء الشعبي العام للمصادقة عليه أو رفضه وذلك باغلبية المقترعين". وقد برز مبدا اللجوء إلى الاستفتاء في تونس إثر احداث 14 جانفي اثر تعليق العمل بالدستور القديم وحلّ المجلسين وتكوين حكومة تكنوقواط وتحديد موعد إنتخابات التأسيسي وهو منهج رفضته حكومة الغنوشي انذاك إلى أن حلّ محلها الباجي قائد السبسي واستطاع في ظرف وجيز أن يفي بتعهدات الحكومة خاصة في ما يتعلق برهان الإنتخابات. والمتأمل للوضع العام للبلاد قبل الإنتخابات كان يرى المشهد السياسي محتكرا وبالكامل من قبل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والأحزاب المنضوية تحتها وكان حينها الجميع يتحدث بروح وفاقية وانه هناك اجماع على الذهاب لإنتخابات المجلس التأسيسي. في الأثناء ظهر موقف بدأ وقتها شاذا ومخالفا للإتجاه العام حين تقدم ما كان يعرف بأحزاب التآلف الجمهوري بمشروع ملخصه " أنه لا دخول لإنتخابات ما لم يكن الأمر يوازيه إستفتاء على شكل نظام وتحديد صلوحيات ومدة عمل المجلس بما يعنيه آليا تواصل عمل الحكومة الحالية الى حين الإنتهاء من وضع الدستور". غير ان هذه الفكرة سرعان ما وجدت معارضة خاصة من اليسار الذي صنف الفكرة في خانة " الثورة المضادة " وتبني الإتحاد العام التونسي للشغل لمبدا الاستفتاء ووقف حينها في منتصف الحلّ. ولم تكن ذات الفكرة بعيدة عن مواقف الوزير الاول بالحكومة المؤقتة الباجي قائد السبسي الذي بدا قابلا بالمبدا إلا أن ضغط أحزاب الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة بالاضافة إلى موقف حزب العمال الشيوعي التونسي أوقع المبادرة في الماء وانتهى الأمر بتقديم مقترح من طرف عياض بن عاشوراسفر عن إمضاء وثيقة من طرف 11 حزبا تضمن " تحديد سقف زمني لعمل المجلس دون تحديد للصلوحيات".
الانتخابات.. غيرت المعطيات
وبمجرد اعلان النتائج وتاكد فشل احزاب الهيئة في الظفر بعدد وافر من المقاعد باستثناء ( الترويكا) التي بلغت الحلم في حين كان اليسار أكبر الخائبين , نتيجة كانت النهضة تتوقعها سلفا وخير دليل على ذلك أنها لم ترفض قبل الإنتخابات أي مقترح تقدم به أي طرف وكان حال لسانها يقول " أمطري حيث شئت فإن خراجك لي ". وقد صحت هذه المقولة ولكن بتغيير واضح على مستوى التكتيك واثبتت هذه الانتخابات تفوق النهضة وحليفيها الذين تقاسموا الأدوار والنفوذ فيما حكم على البقية بدور المعارضة " التي لا حول ولا قوة لها " وهو ما يفسر سرعة حصول مصطفى بن جعفر على رئاسة المجلس وبفارق كبير عن ملاحقته مية الجريبي.
ما إن أعلن تحالف النهضة والتكتل والمؤتمر عن رغبتهم في ترشيح منصف المرزوقي لرئاسة الجمهورية حتى حصل شبه إجماع داخل المعارضة على رفض هذا المقترح وبدأ الجميع يتحدث عن تحدي هذا الترشح ولو شكليا. ولكن وبمجرد ظهور مشروع الدستور (الدستور الصغير) المقترح من قبل النهضة والذي تسربت تفاصيله إلى الراي العام حتى تحركت ماكينة المعارضة داخل المجلس وخارجه لتضع حدا لمبدا اليد الطولى لرئيس الحكومة مرشح النهضة والذي يجمع في يده كل السلطة وما البقية الباقية الا ديكور. وامام الصلاحيات الواسعة لرئيس الحكومة تحركت ماكينة المعارضة لتشكل قوة جديدة نجحت لاحقا في انتزاع بعض الصلاحيات من رئيس الحكومة واسنادها إلى رئيس الجمهورية الذي كاد يفقد رمزيته "كهرم للسلطة".
في التسلل
كان من المفترض أن يعمل المجلس على دفع البلاد إلى العمل بنظام المراسيم الحالية حتى يركز النواب على مهمتهم التاريخية في وضع دستور نهائي في زمن لا يتجاوز سنة كما وعدوا الشعب بذلك بدل تركيزهم على ترتيب أوضاع حكومة محتملة ووثيقة مؤقتة وصلوحيات مؤقتة ومهام مؤقتة فهل كانت المسالة مخطط لها مسبقا ؟ بما يعنيه :
أن النهضة استطاعت أن تلتف على حوارات المجلس وتنهي نهائيا فكرة إستمرار الحكومة المؤقتة بمناقشة صلوحيات الرئيس المقترح مما أوجد للمرزوقي مشروعية داخل المعارضة بل وتعاطفا معه. وهي تعمل على ربح الوقت أمام تخوفها من تحمل أعباء حكم هو مثقل بالأمور المعقدة وكأنها تبحث عن حلفاء جدد لعلّ الوقت كفيل بإبرازهم. أما الباجي قائد السبسي فقد كسب بفعل الإرتباك الذي بدا واضحا في اشغال المجلس تعاطفا شعبيا واسعا حتى داخل الاوساط السياسية التي كانت عبرت عن رفضه سابقا. كل هذا يدفعنا الى القول أن الفصل الأخير والفعلي من الثورة مازال لم يحن موعده بعد خاصة وأن الذين كانوا في لحظة ما يقدسون فكرة مجلس تأسيسي والذين في لحظة ما يرفضون مجرد التفكير في الإستفتاء وتحديد صلوحيات المجلس صاروا أكثر المتحمسين لهذه الفكرة.