بقلم: د. عزالدين عناية على نقيض الدكتاتورية التي تحنط المجتمع ثم تنفث في رفاته إيهاما بأنه حي يرزق، تختزل الثورة تاريخه وتؤجج حراكه. من هذا الباب يبدو وضع الدين في تونس الراهنة جديرا بالمتابعة. فقد شهد مجال التدين والمقدس تحولات هائلة قطعت مع ما ساد سلفا. انتقل فيها التعامل مع الشأن الديني من التسيير والتوجيه والاحتكار، عبر هياكل الدولة النافذة: وزارة الشؤون الدينية، المجلس الإسلامي الأعلى، مؤسسة الإفتاء، الجامعة الزيتونية، وزارة الداخلية، إلى ضرب مغاير كليا، يماثل ما يطلق عليه علم الاجتماع الديني الأمريكي «تحرير السوق الدينية». فتعاطي النظام السابق مع الشأن الديني، بما اختلقه من أدوات لضبط حركة المجتمع، ما كان غرضه تنظيم الحياة وتطويرها، بل الإمساك بمفاصل المجتمع الحيوية وتوجيهها. استعان في ذلك بما أرساه سلفه البورقيبي، الذي شرع مبكرا في الحد من استقلالية القطاع الديني، سواء عبر إلغاء نظام الأوقاف وحل المحاكم الشرعية، وهو ما تم عام (1956)، أو بتحجيم دور الجامعة الزيتونية منذ عام (1958). وقد زاد الخلف عن سلفه تشديدَ القبضة الأمنية على ضمائر الناس وإلحاقها بمهام وزارة الداخلية، حتى غدا أداء الشعائر وعمل الإحسان، تحت رقابة الدولة. كان احتكار الشأن الديني في تونس قبل الثورة محرجا للداخل ولافتا للخارج، وتخطت الرقابة ضبط الخطاب الديني، المكتوب والمقول والمرئي والمسموع والملقن، إلى ضبط مظهر التزيي والهندام، وذلك بالإجحاف في تطبيق المنشور القانوني الصادر سنة 1981م، المعروف بالمنشور 108، الذي يحظر اللباس الشرعي على المرأة. ذلك التحكم باقتصاد الرأسمال الروحي وما يحويه من بضاعة دينية: معرفية ومظهرية واستهلاكية، على حد عبارة عالم الاجتماع الأمريكي لورانس إياناكوني، بات لاغيا اليوم. ولا غرو أن ذلك التحول الفارق الذي هز تونس قد زعزع المعتاد، وأدخل ارتجاجا في مسلكيات عمرت طويلا، خُيل للعديد أنها باتت أمرا واقعا. ولذلك، لا الإنسان التونسي الذي ينزع منزعا محافظا، ولا المفرط بالعادة أو التربية في التعاليم الدينية، اعتاد على هذا المسلك المستجد، غير الخاضع للاحتكار من أية جهة، ولو كانت الدولة. فقد انهارت الأبوة الدينية بالمعنى الفرويدي- فجأة، وانبرى التونسي باحثا عن تأصيل كيانه بطريقة غير معهودة، لا سند له فيها إلا ضميره ووعيه وما يتطلع إليه الناس. حتى بلغ التشكيك في المؤسسات الدينية القائمة ذروته في المطالبة بحلها والاستعاضة عنها بأخرى لتسيير الأعمال. واللافت في ذلك التحول الانقلابي أن الجموع الشعبية ما كانت تنشد التملص من الدين أو انتهاك تعاليمه، بل تتطلع إلى التحرر من استحواذ فئة عليه، وهو ما بات ينفر منه شق واسع من الناس. فالجديد الذي جلبته الثورة معها وهو القطع مع المركزية الدينية. بات كل تونسي طليق العنان، حر الكيان، في اتخاذ اللون الديني الذي يشتهي واستهلاك البضاعة الروحية التي يحبذ، ولو كان ذلك المسلك متجاوزا للسائد المتعارف عليه. وجراء ذلك نجمت ثقافة جديدة في مقاربة المجتمع للدين وفي فهمه. ولكن ما الذي أوصل التونسي إلى هذا المستوى المغاير في التعاطي مع الدين؟ قد يُختزل الأمر في مقولة الثورة، ولكن ذلك التفسير يبقى غائما وغير كاف ولا شاف. إذ لطالما استبدت الدولة في البلاد العربية بالمشروعية الدينية بتعلة أن التفويت فيها لعامة الناس مدعاة لاختطافها من قبل الحركات الإسلامية. والحقيقة أن هذا الموقف وإن ينطبق على بعض البلدان فهو لا يتلاءم مع غيرها. إذ خلال العقود الأخيرة، تشكل طرح ديني نقيض لمعروض السلطة، عادة ما استند إلى حركة أو جماعة دينية بادية للعيان، أو تماهى كذلك مع تيار غائم لا رابط بين أطرافه سوى مناكفة خطاب السلطة. وبتعاقب الزمن غدا المشهد الديني موزعا بين مزوديْن دينييْن يروجان بضاعتيْن مختلفتين، كل يعرض صنفا تختلف خاصياته وإشباعاته. صنف تمثله السلطة الحاكمة وترعاه وصنف تمثله تلك الحركة المقصاة سياسيا والحاضرة اجتماعيا. ومن حسن الطالع أن الحركة المهمشة والحاضرة بقوة في المخيال الجماعي لعامة التونسيين -حركة النهضة- قد تبنت منذ مطلع تأسيسها -1981- طرحا ديمقراطيا يقطع مع الطابع الاحتكاري للدين. وعرضت نفسها كتشكيل له مرجعية إسلامية لا يدعي الوصاية على الميراث الروحي. في الوقت الذي كانت فيه السلطة، التي تزعم محاربة احتكار الدين، تمارس رفقة حزبها أعلى أشكال الاستحواذ عليه. ولكن ما هي التداعيات المنجرة عن ذلك التحرير المتسارع للسوق الدينية في تونس؟ أو بعبارة مغايرة عن تهاوي صرح التحكم الحصري بالمشروعية الدينية؟ خلال الصائفة الماضية دار جدل صاخب في تونس بشأن إبقاء مضمون الفصل الأول من الدستور السابق أو إلغائه، الذي ينص على أن «تونس دولة حرة... الإسلام دينها والعربية لغتها». تعددت المبررات، لكن ما يبدو مستخلصا أن الإسقاط لذلك التنصيص لا يلغي أمرا واقعا أن تونس عربية اللسان وإسلامية الدين، وبالمقابل إن جرى التنصيص فتونس حريصة على خياراتها الدينية، وليست رهينة أقدارها التاريخية. فلا مكان لحتمية التاريخ كما يقال بل هناك إرادة اختيار. لذلك وإن استتب الأمر على الإقرار بأن لا جدل بشأن هوية البلاد، فإن ذلك لا يلغي التعامل المستنير مع الدين، عبر ما يلوح في الأفق من سعي لإلغاء وزارة الشؤون الدينية ومؤسسة الإفتاء، وتحويل الشأن الديني برمته إلى المجتمع المدني، دون أية وصاية عليه. ربما اتخاذ تلك الخطوة والسير فيها سيعيد صياغة علاقة التونسي بالدين بشكل جذري، بعد أن ظل ضربا من الإلزام ليتحول إلى ضرب من الاختيار الواعي الحر. من هذا الباب فشل الدفع باتجاه تبني الطرح العلماني. والواقع أن ذلك المسلك غريب عن المكون الحضاري التونسي وعن تاريخه، لذلك اشتد الخصام بشأنه، ولاح أن من ينشدونه فئة ضئيلة بعد الهزيمة التي منيت بها أحزابه في الانتخابات الأخيرة. فالثورة الحقيقية لا تستورد مفاهيمها من الخارج بل تصوغ مسلكيتها وفق منطقها وتطلعاتها ووقائعها. فمنذ أن تهاوى صرح النظام السابق استطاع المجتمع أن يسير شأنه بذاته، وما عادت الدولة تملي خطابها على الناس بل بات المجتمع هو الفيصل في قبول السياسات الدينية أو رفضها. وقد تجلى ذلك بالأساس في إنزال بعض الأئمة من فوق المنابر وتصعيد غيرهم، بموجب تورطهم مع النظام السابق، وهي جدة لم يعهدها الناس في ما سبق. ورغم ما أوحت به تلك العملية من طابع الفوضى، تبين لاحقا أنها الممارسة الأصدق ترجمة لإرادة عموم الناس والأكثر تعبيرا عما يتطلعون إليه.