بقلم : د. كمال العروسي إن المراقب للمشهد السياسي التونسي منذ بداية الثورة، مرورا بالإستحقاق الإنتخابي (بتاريخ 23 أكتوبر 2011)، والتكتل المعلَن لتشكيل السلطات الجديدةلتونس ما بعد الثورة داخل المجلس الوطني التأسيسي، «يعرف» أن الأحزاب الحائزة على المراتب المتقدمة في أول إنتخابات حُرة تشهدها تونس منذ سنة 1956 لا تمثل «منخرطيها» بقدر ما تمثل «ناخبيها». ونعترف بأن هذه «المعرفة» لا ترتقي إلى درجة الحقيقة المُثبتة علميا، وهي كذلك لا تنحدر إلى مستوى التأويل الشخصي المحض، بل هي في مستوى المنزلة بين المنزلتين... وعلينا كباحثين من مختلف الإختصاصات العلمية تدارك هذا النقص الحاصل في تونس وإنشاء مراصد علمية وطنية لسبر واستطلاع الرأي العام باعتماد المقاييس العلمية ووسائل التواصل الحديثة. لعل ما فات بعض المتابعين للمشهد السياسي التونسي هو أن مسار الثورة ما زال يقتفي أثر بناء الدولة التونسية الحديثة. فالإستثناء التاريخي للثورة التونسية يكمن في أنها لم تُفرز قيادات لها من جُموع الثوار ليقودوا مرحلة بناء الدولة بل اكتفوا باستعارة الهياكل الحزبية المتواجدة في صف المعارضة الجدية لنظام بن علي وقامت بتفويضها، عبر الإنتخابات، لقيادة مرحلة بناء الدولة الجديدة. فأغلب هذه الأحزاب «الفائزة» في الإنتخابات لا تمثل حقيقة منخرطيها المتحزبين فعليا بقدر ما تمثل جموع الناخبين الذين شحنوها بتفويض يتجاوز حجمها الحزبي الصرف، ويجب على هذه الأخيرة أن تعي هذا المُعطى كقراءة أولى من زاوية الأنتروبولوجيا السياسية الحديثة. إن «ديناصورات» المعارضة السياسية لنظام بن علي توزعوا على ثلاثة أصناف: 1 - صنف قديم يعود إلى ما قبل تاريخ ميلاد نظام بن علي (7 نوفمبر 1987)، يتمثل خاصة في «حركة النهضة». قام بن علي منذ استيلائه على الحكم بحملة إبادة ممنهجة لهذا الحزب من الساحة السياسية بتونس وأصبحت كوادره وأعضاءه يتقاسمون المنافي والسجون والإقصاء، استمرت إلى حدود يوم هروب الرئيس المخلوع (14 جانفي 2011). 2 - صنف ثان نشط داخل البلاد في عهد بن علي («الحزب الديمقراطي التقدمي»، «التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات») واكتفت قيادات هذه الأحزاب بالنشاط ضمن المساحة السياسية الضيقة المسموح بها من نظام بن علي، مما جعلها منكفئة على ذاتها، لا تُغامر كثيرا في الأحراش الممنوعة من النظام. ولم يتجاوز عدد منخرطيها بضع مئات، تكيفوا مع طبيعة المرحلة دون الإرتهان الفظ لدى النظام الحاكم على شاكلة أحزاب المعارضة البرلمانية، مع المجازفة ببعض المواقف والآراء في نشرياتهم وجرائدهم أو بالترشح للإنتخابات الرئاسية في سنة 2009 كأقصى تحد لحُكم الرئيس المخلوع. 3 - صنف ثالث راوح في نضاله بين داخل البلاد وخارجها، حسب الظروف والمناخات السياسية المُتاحة، ك»حزب المؤتمر من أجل الجمهورية» الذي كان على مدى عهد نظام بن علي أشبه بالظاهرة الإعلامية منه إلى الحزب السياسي. إذ من المعلوم أنه لم تكن لهذا الحزب هياكل ولا قواعد شعبية ذات بال إذا ما استثنينا بعض المناضلين والمناضلات المنخرطين فيه من حقوقيين وإعلاميين وإطارات عليا، وكانت بعض قياداته قد تعرضت للسجن والتنكيل. إن الثورة التونسية وطنت نفسها في الفضاءات الفكرية الجديدة لما بعد-الحداثة والتي جعلت من الهياكل القديمة من أحزاب ومؤسسات دستورية لإنشاء سُلط الدولة «الديمقراطية التمثيلية» مُجرد استعارات فرضتها ضرورات المرحلة التاريخية وطبيعتها. أو بلغة أخرى، على «الأحزاب» المتمثلة داخل المجلس التأسيسي أن تعي بأن مسار التحول التاريخي القِيَمي لحضارات ما بعد-الحداثة قد انطلق من تونس، ومن المفروض عليهم مجتمعين تلقف هذه «اللحظة التاريخية» الحاضرة والبناء عليها لا على ماضيهم ومرجعياتهم الحزبية ضيقة الأفق والتي ستتهاوى كأوراق خريف إن لم تع طبيعة هذا الفضاء الجديد ومستلزماته. بلادنا اليوم بحاجة لكافة أبنائها المخلصين، فالتحديات - حسب ظني - لها أوجه ثلاثة: 1 - تشخيص مراكز قوى الإستعمار وعزلها. 2 - بناء الدولة الديمقراطية الحديثة ذات السيادة الكاملة ومؤسساتها الدستورية. 3 - بناء المجتمع المدني الديمقراطي وتنمية فضاءات الحوار وترسيخ تقاليد الحرية والتسامح. ولكل من هذه الأوجه الثلاثة مستلزماتها ومناهجها وأهدافها التي تحددها طبيعة التزاماتها التشريعية والأخلاقية المؤسسة لها. لذلك يجدر بنا أخيرا التركيز على قوى المجتمع المدني التي يجب أن تبني صرح الديمقراطية الحديثة بتبنيها لمبدأ الاختلاف لا الخلاف أو رسمٍ للأهداف من خارج الموْقع الطبيعي.