مرت سنة دون أعمال استثنائية وكأني بالمبدعين لم ترجهم الثورة بعد الإجماع على أن الشأن الثقافي لا يقل قيمة عما هو سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي لا سيما في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ بلادنا وذلك بعد مباشرة أول حكومة منتخبة لمهامها جعل أهل الميدان يتلقون تعيين الدكتور مهدي مبروك المختص في علم الاجتماع وزيرا للثقافة بكثير من التفاؤل. فالوزير الجديد لم يكن متحزبا ثم أنه من رجالات العلم والمعرفة ومن الفاعلين في الوسط الثقافي أيضا وهو ما جعل المهتمين يتوقعون انطلاقا بالخصوص من قربه من الساحة الثقافية وانفتاحه على واقعها أن تكون مرحلته على رأس الوزارة مرحلة الإصلاح والتأسيس. التقينا وزير الثقافة بعد مباشرته مهامه وتطرقنا معه إلى عدد من القضايا والإشكاليات التي تشغل الساحة الثقافية كما تحدثنا عن آفاق الثقافة والإبداع في تونس في ظل التغييرات السياسية الهامة التي تشهدها بلادنا فكان الحوار التالي مع الدكتور مهدي مبروك.
حوار نزيهة الغضباني
كيف ستكون علاقة الوزارة بالمثقف؟
هذه الوزارة هي وزارة المثقفين بدرجة أولى لا يمكن تماما أن نشتغل وننكب على الملفات دون حضور المثقفين وهذا يقتضي تشريكهم والإنصات إليهم أي تيسير العلاقة التي ربما شهدت بعض الجفاء. كما أن العلاقة أيضا تقتضي القطع مع أشكال التهميش وكذلك معاملة جميع المثقفين على قاعدة الحياد والنزاهة والشفافية والابتعاد قدر الإمكان عن ثقافة "الشلة والزبونية". سنرسي علاقة جديدة تقوم على التفاعل التشاركي بعيدا عن الاستشارات التي استهلكت ولم تكن ذات جدوى. نفضل أن نشتغل ضمن منهج ورشات العمل. فقد كان النظام السابق يمنح المال العمومي دون أن يرسم أهدافا ويقيم مدى تقدم إنجاز المشاريع في المسرح والسينما والأدب وغيرها من المشاريع الفنية والثقافية الأخرى. تفعيل أدوات المتابعة في كنف الشفافية ورسم الأهداف الدقيقة من شأنه أن يقِيم علاقة جديدة لا ترتهن بالمزاج الشخصي للوزير أو ولاءاته السياسية والحزبية. مأْسسة العلاقة ضرورة سننجزها في الأشهر القادمة. أنا أميل إلى تجربة المجالس العليا للأدب أوالفن التشكيلي أوالموسيقى أوالسينما أو المسرح على اعتبار أنها إطار أمثل لإيجاد علاقة متمأسسة بقطع النظر عن بقاء الوزير أو رحيله أو توجهات الفنانين أو المدارس الفنية لأني لو شكلت لجنة وعينت أي طرف سأُتهم بدعم تعبيرة على أخرى لذلك أرى أنه من الأجدى بناء علاقة جديدة من خلال اعتماد مؤسسة أو هيكل نعمل على صياغة تصورات وقوانين تنظم سيرها.
إلى أي مدى يمكن أن نتطلع إلى سياسة ثقافية تراعي حرية المبدع دون قيد أو شرط؟
أعتقد من المهم أن تكون لبلادنا سياسة ثقافية ترسم أهدافا واضحة وتعد لها الإمكانيات والموارد اللازمة السياسية والثقافية آخذة بعين الاعتبار السياقات الوطنية والإقليمية حتى تسهم الثقافة في نحت مشروع مجتمع تضطلع النخبة الثقافية فيه بدور هام إلى جانب غيرها من مكونات المجتمع كرجال الأعمال والمتلقي وغيرهم. وأعتقد أن هذه السياسة وبقطع النظر عن تفاصيلها لا بد أن تستند إلى مبادئ أهمها صيانة حرية الإبداع ودعمه والتخلي عن الرقابة وجعل ضمير المبدع مصدرا وجيها والجمهور حكما على جودة المنتوج.
هناك البعض من أهل الميدان الثقافي يخشون من عودة الرقابة ولو في شكل مختلف؟
بدأت الوزارة بعد الثورة في التخلي عن كافة أشكال الرقابة في الأدب والفكر والأعمال الفنية الأخرى، وإنصافا للوزير السابق السيد عزالدين باش شاوش لا أعلم أن الوزارة تدخلت في أي عمل على أساس الرقابة. فالوزارة دعمت بالمليارات خلال سنة 2011 أعمال مختلفة وذلك طبعا في إطار دورها المتمثل في دعم الإنتاج الثقافي وبالمقابل لم تمارس الرقابة. وأعتقد أنه لا مجال لعودة الرقابة باي شكل كان.
تسود الوسط الثقافي بمختلف قطاعاته حالة تشتت مردها انعدام الثقة وضبابية المشهد وغموضه ما مدى حرص الوزارة على تغيير المشهد؟
هذا السؤال وجيه ويتطلب إجابة مزدوجة لأن هناك أمورا من مشمولات الوزارة وأخرى يتحمل الفنانون مسؤوليتها فالأولى تتعلق بأزمة الثقة وهي أزمة لا تشمل الحقل الثقافي دون سواه وإنما تشمل الاقتصادي والتربوي وغيرهما ولها تداعياتها على المستوى الثقافي. فأزمة الثقة ناجمة عن الثقافة السابقة فهي لم تتخلص بعد من ثقافة الماضي. كما أن أزمة الثقة لها في الوسط ما يبررها. فبعض النخب الثقافية لها تحفظات سياسية على الحكومة وتسقطها على المشهد الثقافي. ولم أشعر إلى حد الآن من الحكومة أن لها رغبة لبسط نفوذها على الثقافة بل على العكس كل نواياها تتجه إلى دعم الحريات واستحقاقات الثورة ومتطلباتها. أما فيما يتعلق بالمسألة الثانية وتعني التشتت فإذا ما كان القصد كثرة النقابات والجمعيات في صلب القطاع الواحد فهذا شأن موكول إلى المبدعين من أجل توحيد صفوفهم والارتقاء والتعالي عن الخلافات والنزاعات الشخصية ولا أجيز أن أتدخل إلا على قاعدة الصداقة والمحبة والمواطنة لهؤلاء وسنسعى لنكون عادلين منصفين في التعامل مع مختلف الفرقاء.
من المؤكد أن ملفات عديدة مطروحة أمام وزير الثقافة فأي الملفات تعتبرونها أكثر إلحاحا اليوم؟
هذا السؤال يضع الإصبع على موطن ألم حاد بين الرغبة في التأسيس والقطع مع الماضي وتدشين أو تأسيس عصر جديد للثقافة يستنير بالتجارب المضيئة للوزارة في مختلف القطاعات الفنية والمجالات الثقافية على اعتبار أن هناك فضاءات خاصة للمسرح والسينما تساهم الوزارة بنسبة كبيرة في دعمها في إطار التسيير من ناحية وبين الانكباب العاجل على تسوية ملفات عالقة وهي تكاد تكون مهمات مستحيلة. فهناك ملفات لن تستطيع وزارة الثقافة معالجتها وإيجاد الحلول لها في ظرف سنة كمدة مخولة لعملنا في الوزارة ضمن الحكومة المؤقتة لأن هناك ملفات شائكة مطروحة أمام القضاء ولم يحسم أمرها بعد على غرار ملف مدينة الثقافة التي لا تزال ضمن مشمولات وزارة التجهيز ولا أعتقد أنها ستكون جاهزة للاستغلال خلال هذه السنة بعد مواصلة أشغالها. أما الملف الثاني فيتعلق بالتراث وأساسا الآثار بتحديد الخريطة الأثرية وحماية المواقع وصيانتها ضمن مواصفات عالمية. ولا يمكن حلها في وقت وجيز ومع ذلك سوف لن نستسلم. فأنا سوف لن أكتفي بوضع القطار على السكة بل سأسعى إلى وضع وتثبيت السكة على الأقل في هذه المرحلة على نحو أمهد الطريق لوضع القطار في مرحلة أخرى.
هل تسعى الوزارة إلى تضمين الدستور الجديد بنودا تحفظ حرية المبدع والمثقف بحيث لا يقع تجريمه من أجل إبداع أو فكرة أو رأي؟
الوزارة لا يمكن أن تشارك مباشرة في أعمال المجلس التأسيسي ولكن أنا على يقين أن هذا المبدأ سيكون على رأس أولويات المجلس التأسيسي فالأطراف المختلفة بما فيها الترويكا والمعارضة مجمعة على دسترة حرية الإبداع وحماية التراث لأنهما مبدآن هامان ولي ثقة كبيرة في أعضاء المجلس التأسيسي أنه سيتم أخذ هذه المسألة بعين الاعتبار من خلال تضمينها في الدستور.
كيف السبيل إلى الارتقاء بالإنتاجات الثقافية فنيا وإبداعيا كي تكون في قيمة المثال التونسي الذي جاءت به الثورة الشعبية؟
أعتبر هذا الطرح على قدر من الجرأة والأهمية لا سيما في هذه الفترة بالذات لذلك سأكون جريئا أيضا في إجابتي وأتحمل مسؤوليتي في ذلك. كنا سابقا نبرر تردي المنتوج الثقافي مع استثناء بعض الحالات النادرة في المسرح والسينما خاصة نبرره بثقافة الخوف والرقابة والتهميش الممنهج. هذا المبرر سقط وهذا ما يشاطرني فيه الراي العديد من المثقفين. علما أن الأعمال الجيدة التي وراءها مبدعون كبار حافظت على ألقها حتى زمن الاستبداد وإنه لمن المحير أن تمر سنة بعد الثورة دون أن نشهد أعمالا فنية وإبداعية استثنائية فكأن الثورة "غدرتها" الثقافة ولم ترافقها وكأن المثقفين لم ترجهم بعد ليتسع خيالهم. قد يكون الخيال الذي شل لم يستعد عافيته بعد والدليل على ما ذكرنا أننا مازلنا مع بعض الاستثناءات نستهلك المنتوجات التونسية التي أنجزت قبل الثورة. التعبيرة الوحيدة التي كانت اكتشافا هي تعبيرة "الراب" ولكن لا يمكن أن تكون الوحيدة ويجب أن نجرب في المتعدد والقصي. وهذا جهد ومهمة المثقفين وليس الوزارة لأنها أي الوزارة ليست عقلا ينتصب فوق المجتمع وإنما هي مناخ وإمكانيات وسياسات.
مقولة " أسلمة الثقافة" كيف ينظر إليها الدكتور مهدي مبروك وهل يمكن للثقافة أن تكون منمطة؟
مصطلح "أسلمة الثقافة" غير وارد مطلقا وهي مسألة لا أعلم ملامحها ولا دعاتها ومن السخف أن يُرفع هذا الشعار. فكيف نفهم أن الذي حقق ديوان بشار بن برد هو الإمام الفاضل بن عاشور وهل كان إسلامه يتناقض مع الإبداع ولماذا حققه فهو يرى الوجود ولم يطمسه؟ أعتقد أن المطلوب مشروع لثقافة وطنية تعمق هوية البلاد المنفتحة على مصادر الثراء الكونية دون إلحاد أو اجتثاث فالعروبة والإسلام مصدر ثراء لثقافتنا الوطنية. فيما قرأت لم أتوقف عن أطروحة متماسكة لأسلمة الثقافة والوزارة ستكون وزارة الجميع في كنف المهنية والحياد وعلى النخب الثقافية أن تخوض مناظراتها ومشاريعها.
كيف ستتعامل الوزارة مع الدعم الأجنبي للمشاريع الثقافية؟
أعتقد أن الشراكة مع الدول الأوروبية والمجتمع المدني الأوروبي وغيره من الدول التي تفتح مجال التعاون في الإطار كإيران وغيرها من البلدان الشرقية ومن أمريكا اللاتينية تتم وفق قوانين تنظم هذا الأمر ولكنها قد تحتاج إلى تعديل أو تطوير من أجل تأكيد مبدأ السيادة الثقافية. رفض الأجندات المسبقة أمر يحتاج إلى مناقشة لكن على الدولة أن تستعيد دورها وعلى القطاع الخاص أيضا حتى لا نرتهن إلى التمويل الخارجي ومع ذلك إذا التزم التمويل الخارجي بالقواعد الأنطولوجية فإنه يكوم مصدرا هاما على الأقل في الانتاج الثقافي خصوصا وأننا إزاء فضاء معولم للثقافة تتجول فيه البضائع والأفكار والأموال.
كيف ستتعاملون مع مسألة الدعم هذا الملف الساخن والذي كان سببا في إثارة عديد الإشكاليات؟
وزارة الثقافة هي سمك يُؤكل ثم يُذم وهي تدعم جميع القطاعات وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة وهناك بعض القطاعات استأثرت بنصيب الأسد وظلت قطاعات أخرى مهمشة واستأثر البعض وظل البعض الآخر مهمشا. فالمال العام وظيفته دعم الإنتاج وهذا واجب الوزارة ولكن توزيعه بشكل عادل وشفاف يحتاج إلى المزيد من الإحكام والرقابة دعما للحوكمة الرشيدة.