احتفى هذه الأيام الأستاذ الباحث أحمد الحمروني بصدور مؤلفه الجديد «من وحي الساعة / مقالات مصطفى الفارسي في الفكر والأدب والفن». حول هذا الاصدار الجديد ومن وحي عنوانه وفصوله التقت «الشروق» المؤلف للتعرف على رأيه فيه وعلى آرائه في القضايا الثقافية منذ اندلاع ثورة 14 جانفي المجيدة. ٭ كيف تقدم للقراء مؤلفك الجديد «من وحي الساعة / مقالات مصطفى الفارسي في الفكر والأدب والفن»؟ هو من فضل اللّه العنوان العشرون في قائمة مؤلفاتي وهذا يشجعني ويحثني على نشر العناوين الأخرى الجاهزة للطبع، ويحفزني لمزيد البحث والتحقيق والتأليف وهو صادر عن دار حركات للنشر بإشراف نادي مصطفى الفارسي للإبداع (تونس 2011 في 285 صفحة) ويشتمل الكتاب على مجموعة مختارة ومبوبة من مقالات الفارسي المتنوعة والمحافظة على حداثتها وقيمتها بقدر قيمة صاحبها في مختلف الممارسات الأدبية والمسؤوليات الثقافية في الداخل والخارج وفيه أيضا قسم توثيق عن الرجل وتراثه بما في ذلك فهرس مقالاته، ما لم ينشر منها وما نشر في عديد المجلات والصحف سواء أحرّره أم ألقاه كمحاضرة أو كلمة في ندوة أو في حفل تكريم ومن القضايا المطروحة والمواقف المتخذة إزاءها ما تعلق بالابداع والحرية والالتزام والكتاب والنشر والتراث والأسطورة والترجمة، والهوية والمرأة وكوريا الشمالية وذلك في مختلف الأجناس الأدبية وسائر الفنون انطلاقا من ممارساته الميدانية طوال النصف الثاني من القرن الماضي وابتداء من تاريخ الاستقلال وخاصة في مرحلة تأسيس الدولة وتأسيس الثقافة إذ كان الرجل شاهدا على عصره ومشاركا في العمل الميداني تشريعا وإنجازا وإنتاجا. ولا شك أن القارئ سيستفيد من تلك المواقف والأفكار ويقدر صاحبها كما سيقدر جهدي المتواضع في التنقيب عنها لتوثيقها كلها وجمع مختارات منها وتصحيحها لأجعل منها كتابا يضاف إلى رصيد الفارسي مؤلفا وإلى رصيدي محققا. ٭ هل يمكن الحديث عن علاقة ذات طابع خصوصي بين ما هو ثقافي والثورات على مرّ التاريخ؟ الثورة في البدء عملية ثقافية تنبع من الضمير الواعي وتترعرع في الفكر لتتشكل على صورة برنامج يحوّله الشعب بمختلف شرائحه وأطيافه إلى واقع، ولذلك تتطلب بذرة الثورة في الثقافة وقتا لتنبت وتينع ثم تثمر في اليوم الذي تندلع فيه الثورة وتدخل التاريخ، فنحن نعرف تاريخ الثورات ولكننا لا نستطيع أن نحدّد تاريخ الأفكار المولّدة للثورة بعد حمل ومخاض في العقول وولادة في الابداع الثقافي بمختلف تجلياته لأن العملية طويلة الأمد، فالثقافة هي أم الثورة وبذرتها أو نطفتها وهي أيضا حاضنتها وراعيتها على الدوام حتى لا تحيد عن مسارها الصحيح فتتحوّل هذه الثورة من ثورة على الفساد والرشوة والمحسوبية والثراء الحرام إلى فوضى شعبوية هدامة ظالمة أو إلى استبداد السلطة بالمجتمع لأغراض ومطامع شخصية، وفي التاريخ ثورات انقلبت على ثورات وثقافة انقلبت على ثقافة، وما أشبه هذه الثورة إذا كانت مسؤولة أو هذه الثقافة إذا كانت ملتزمة بالدم الحي الحامي لصحة البدن. إن صحة المجتمع في الثورة الثقافية والسياسية على النظم البائدة والقوانين المتكلسة والممارسات غير الشرعية وصحته في التجديد المتواصل مع الاستفادة من التجارب الصالحة ومن التراث في جوانبه المضيئة وكذلك الحوار مع الآخر والتفتح على ثقافته والتعاون معه على أسس تنموية مراعية للقيم الانسانية وفي طليعتها حرية التفكير والتعبير دون رقابة ذاتية أو سلطوية ودون تجاوز للحدود المعقولة بالأخلاق ومصلحة الوطن، لذا ينبغي أن تبقى الثقافة فوق الثورة ويظل المثقف فوق السياسة فالثابت أسمى من المتحوّل. ٭ ما هي قراءتك لتفاعل النخبة المثقفة مع ثورة 14 جانفي؟ تفاعل المثقف معها كسائر الفئات دون أن يكون له أو لغيره من الفئات والأطياف حق ادّعائها وتبنيها إذ كانت ثورتنا شعبية تلقائية فضلها للجميع ولا لأحد بعينه، ورحم اللّه الشهيد محمد البوعزيزي الذي قدح شرارتها الأولى في جسده وضحى بحياته في سبيل الكرامة دون أن يتكهّن هو أو غيره آنذاك بما ستتطّور إليه الأحداث في تونس والعالم العربي فالمثقف التونسي إذن مواطن متواصل مع واقعه ومعبّر عن مشاغله ومشاكله وطموحاته بالأدب والمسرح والسينما وربما بالشعر والموسيقى أي بالأغاني والأناشيد ولكنه لم يصنع الحدث ولم يفاجئ الناس ولم يكن لا هو ولا غيره من العارفين وحتى من العرافين قادرا على التكهّن بميلاد الثورة وموعدها، غير أنه كان حالما بالثورة ناقدا للواقع، مدافعا عن القيم الأصيلة في عالم متدهور، داخليا وخارجيا وفي حدود الحرية المتاحة. وأستثني المثقف غير العضوي والمثقف المتواطئ مع الحزب الحاكم المتمعّش من الكذب والنفاق والمتلوّن كالحرباء حسب ما تقتضيه مصالحه الأنانية ومصالح مؤجره. إنه الخطر الذي ينبغي على المجتمع أن يحمي الثورة منه كي لا يركبها ويعود بها إلى الأمس البغيض وكذلك المواطن المسيّس والشاب المغرّر به وهؤلاء المحتجين المأجورين الذين يطالبون برحيل الصالح مع الطالح لأجل الفراغ خدمة للانتهازيين وأغلبية الشعب لا تريد ما يزعمون ولا توافق على المطالب التعجيزية المستعجلة. ٭ أعلنت ثورة 14 جانفي الحرية والكرامة للتونسيين وأنهت الاستبداد بكل أنواعه وأساليبه.. أي تأثير في ذلك على مستقبل الفعل الثقافي التونسي وفي علاقته بالثورة اليوم وغدا؟ سيكون بلا شك أفضل من ذي قبل بما حققته الثورة منذ يومها الأول من المكاسب وفي طليعتها الحرية، حرية الاعلام والابداع نتيجة حلّ «التجمع» سيستفيد الأديب وكل مثقف وكل مبدع في ميدانه من تلك الحرية مقابل أن يحافظ عليها من الانحراف إلى الفوضى الجالبة للاستبداد أو إلى التشخيص والتقديس و«ضرب البندير» كما يقال حتى لا يقال «وارقص للقرد في أيام دولته» وقل له «يا نعم الحبيب» فلا مجال بعد الثورة للرقابة اللّهم في حدود الأخلاق العامة ومبادئ المجتمع المدني، ولكن والحمد للّه إن طبيعة التونسي بشهادة التاريخ وسطية ومعتدلة، لا ينجح معها التطرف لا إلى أقصى اليمين ولا إلى أقصى اليسار، وهي في نفس الوقت معتزّة بأصالتها ومتفاعلة مع الآخر دون ذوبان فيه، وهكذا هي طبيعة الحرية وليست أبدا مطلقة وإلا أصبحت هدامة إنها مقيدة بالمنطق هادفة إلى المصلحة، ولا يحدّدها السلطان، بل يحدّدها الشعب الواعي والمثقف هو ضمير ذلك الشعب كما أن رجل الاعلام، والمثقف أيضا، هو لسان حاله ما لم يتحيّز إلى مذهب أو يتحزّب فيصبح بعين واحدة. المطلوب اليوم الهدوء والأمن والعمل، وكل مواطن مبدع في ميدانه من شرطي المرور إلى الصحفي الموضوعي إلى الوزير النظيف ولكن التطورات الأخيرة من العنف والعدوان إلى استقالة السيد محمد الغنوشي تحدّ من تفاؤلي وتبعث على القلق والحسرة. ٭ لك مطالب عديدة ذات طابع ثقافي عاجلة وآجلة؟ نعم.. مطالب عديدة عاجلة وآجلة وأولها تقدير المثقف والمبدع في المجتمع في حال قوته وفي حال شيخوخته بمنحة الانتاج الثقافي بناء على رصيد أو مشروع، وهذا لا يكون إلاّ في إطار مجتمع يقدر الثقافة وينفق في سبيلها. والدور هنا منوط بوزارة الثقافة وبوزارتي التربية والتعليم العالي وخاصة بالاعلام متنوع الوسائل وثانيها وضع خطة لترويج الكتاب داخل البلاد دون الاقتصار على مكتبات معينة في العاصمة، وهنا لا بدّ أن تتدخل وزارة التربية وبعض الوزارات الأخرى لمعاضدة وزارة الثقافة على اقتناء مجموعات من الاصدارات الجديدة للمكتبات المدرسية والجامعية ومكتبات المؤسسات الأخرى، فهذا من شأنه أن يزيد في عدد النسخ المسحوبة ويخفّض من سعر الكتاب فيقدر على شرائه أكثر ما يمكن من القرّاء. وبالمناسبة على لجنة الشراءات بوزارة الثقافة مراعاة الجودة في ما تقتنيه من العناوين تشجيعا للناشر أو للمؤلف حتى لا يستأثر بالقسط الأوفر بعض المؤلفين المحترفين بإنتاج كتاب كل أسبوع!! وعلى اللجنة أيضا أن تستثني من الشراء والدعم الكتب شبه المدرسية بعد أن أصبح هذا المجال من التأليف ظاهرة تجارية ومثلها ظاهرة أخرى لا تعجبني والنزعة المادية فيها واضحة ولو على حساب الفن وهي مسرح الممثل الواحد (الوان ما ن شو). ٭ هي حزمة من المقترحات حتى لا أقول طلبات يتقدم بها أحمد الحمروني إلى أهل القرار في الشأن الثقافي؟ نعم... حتى السينما عليها أن تبحث عن مضامين أخرى لتعطي صورة حقيقية عن المجتمع التونسي في الداخل دون الاقتصار على مجتمع «البلدية» أو الدوران حول سيرة المخرج الذاتية بما في شخصيته من عقد نفسية. أما المهرجانات فقد اختلط فيها الحابل بالنابل فإذا هي فرصة للتمعش والثراء وهذا ملف موكول إلى لجنة مراجعة، والشأن في ذلك شأن الموسيقى والأغنية وأيام قرطاج الموسيقية، لست من مريدي «المزود» ولا «الهيب هوب» ولا بد هنا أيضا من مصالحة بين الجمهور وبين قاعات الثقافة والمسرح ودور السينما وأروقة الفنون التشكيلية والبداية بتعويد الشباب المدرسي ولو في زيارات جماعية رفقة الأستاذ أو المنشط المختص متبوعة بنقاش قد يدعى إليه المخرج أو الممثل أو الرسام، فهذا قد يفجّر فيهم بعض المواهب الجديرة بالرعاية والعناية، أما التراث الملحق بوزارة الثقافة للمحافظة عليه ففيه أطالب بالمزيد من المعهد الوطني للتراث ومن وكالة احياء التراث والتنمية الثقافية دعما لجهود جمعيات صيانة المدن بالقانون وبالمال مع التنسيق مع مصالح البلدية والتجهيز ودعما كذلك للبحث والتأليف والنشر في الدوريات المتخصصة وفي سلسلة مهمة هي سلسلة «ذاكرة وإبداع» التي ناهزت عناوينها الأربعين وفي مجلة «الحياة الثقافية» التي لا أوافق على صدورها في شكل أعداد خاصة وثمة أفكار أخرى يشاركني فيها غيري فالكلمة له واللّه موفق المجتهدين العاملين المخلصين وقدر اللّه الخير لتونس.