تصاعدت وتيرة الاحتجاجات بمختلف أنواعها خلال المدة الأخيرة. فهذه اعتصامات هنا، وعمليات قطع طريق وهجومات على مقرات المعتمديات والولايات هناك، مرورا بأعمال شغب مختلفة الأنواع والأشكال والأحجام. إن ما يحدث حاليا يكاد ينبئ ببوادر عصيان مدني، إذ تتراءى مؤشرات لا لبس فيها، على أن العديدين من ذوي النوايا الحسنة، الذين قبلوا الانخراط قلبا وقالبا في المسار الجديد، قد يرمون المنديل قريبا، بل إن بعضهم فعل ذلك بعد. فهناك معتمدون وولاة في مناطق حساسة استقالة والي قابس والمعتمد الأول بها انسحبوا بعد أن قدّروا أن الشروط الدنيا لممارسة عملهم في ظروف عادية قد باتت غير متوفرة. وهناك حاليا إحساس عام لدى قطاعات عريضة من المجتمع أن الوضع العام هو أسوأ من ذلك الذي رافق الثورة أو أعقبها. فخلال الأيام والأسابيع التي تلت الثورة كان باب الأمل في غد أفضل مفتوحا على مصراعيه، أما اليوم فقد بدأت مسحة من التشاؤم والخوف من الغد تتسلل الى القلوب والنفوس، أصبح الهاجس الجماعي الآن هو الخوف من أن تخرج الأمور عن نطاق السيطرة، لأنه يبدو جليا أن الوضع بصدد التعفن، وأنه في المقابل لا جواب ولا حلول تلوح في الأفق للسيطرة عليه، وهو أمر غريب ومحيّر. فالدولة الجديدة، قد استكملت مقوماتها القانونية الشرعية وسفينتها أصبح لها ربان، بل ثلاثة: النهضة والمؤتمر والتكتل. والاحتجاجات في أغلبها أصبحت فوضوية، وتمثّل اعتداء صارخا على الشرعية والقانون، وتحديا للنواميس والسلطة. فلماذا لم تتحرك هذه الأخيرة الى اليوم لفرض علوية القانون وهيبة الدولة، رغم أن الرأي العام أصبح في عمومه ضد هذه الانفلاتات، ويدينها إدانة واضحة. فأن يحتج البعض ضد البطالة والتهميش فذلك أمر مشروع، أما أن يقع قطع الطرقات والاعتداء على مقرات السلطة العامة وشل حرية الشغل، وأن يصل الأمر مرارا وتكرارا بمجرمين الى مهاجمة مراكز للأمن وللحرس لمحاولة تهريب سجين «زميل»، فذلك أمر غير مقبول إطلاقا. إنه على السلطة الشرعية الجديدة أن تكون في حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها في هذه الظروف العصيبة التي تعيشها بلادنا، وأن تكون في حجم الأمانة التي وضعناها في عنقها بتصويتنا لها. فلا يمكن أن يخفى على أحد أننا نعيش الآن المرحلة الأدق في مسار انجاح ثورتنا، فإما أن يصبح القانون هو الفيصل بين الجميع، وإما الفوضى المدمّرة. فالغني والفقير والموظف والحرفي والبطّال والمهمّش، جميعهم سواسية أمام القانون. هذا ما يجب أن يكون شعار المرحلة الحالية، دون تردّد أو تراخٍ.