بيت الشعر للشعر وليس بيتا للشعراء أو من يريد أن يكون شاعرا من الحرمان والغربة الطويلة... الى الاغتراب وصمت العاجز المكبل بأغلال الظلم والاضطهاد لعقدين من الزمن بسبب الاقصاء والتهميش لنظام جائر.. الشاعر محمد الخالدي اسم يعني الكثير دون شك للمتابعين والمواكبين للساحة الأدبية والشعرية في تونس وفي أرجاء الوطن العربي حتى وإن حال التهميش الذي كان يعاني منه دونه والوصول إلى عموم القراء. محمد الخالدي شاعر وروائي ومترجم.. أصيل الجنوب التونسي وتحديدا من مدينة المتلوي.. مجاز في اللغة وآدابها وحاصل على الماجستير من جامعة بغداد.. له 16 كتاب منشور علاوة على مخطوطات عديدة تنتظر الصدور.. كبريات المجلات والدوريات العربية المتخصصة اهتمت بالرجل ونشرت أعماله الابداعية والمترجمة أيضا. له اهتمام كبير وخاص جدا بالتصوف الاسلامي والديانات الاخرى من البوذية الى الهندوسية.. الى الطاوية وقد ترجم منها وكتب عنها نصوصا عديدة... باكورة اعماله الشعرية كانت من خلال ديوانه "قراءة الاسفار المحترقة" الذي أصدره سنة 1974 ببغداد.. وآخر أعماله وليست الأخيرة رواية "رحلة السالك الى المقام الاسمى وما جاوره من ممالك" والتي صدرت له في تونس أواخر السنة الماضية2011. التقينا مع الشاعر محمد الخالدي فدار الحديث حول تعيينه على رأس إدارة بيت الشعر وقضايا اخرى ذات صلة، الا ان اللقاء لم يخل من اشارات واضحة وصريحة حول توق الرجل لاختراق المجهول وفك أسراره من خلال تجربته الإبداعية على مدى قرابة الأربعة عقود من الزمن. وفيما يلي نص الحديث.
هل جئت الى بيت الشعر.. ام هناك من جاء بك؟
لم أسع الى بيت الشعر، ولم يخطر ببالي في يوم من الأيام أن توكل الي مهمة تسيير هذا الفضاء.. فعلى مدى 20 عاما الماضية عانيت من البطالة والتهميشس والاقصاء حيث تعرضت الى مظلمة من قبل النظام المخلوع الذي عمل على مضايقتي وتهميشي.. وبعد 14جانفي اتصلت بوزارة الثقافة لتصحيح وضعيتي وايجاد مورد للرزق يساعدني على الكتابة، وبعد 8 اشهر من المماطلة والتسويف تبين ان تلك الوعود كانت كاذبة الى درجة اني لم اعد اثق بالادارة اطلاقا. ولكن مع قدوم الوزير الجديد فوجئت به يدعوني لمقابلته حيث طلب مني وضع تصور لما يمكن ان يكون عليه بيت الشعر فقدمت بعض المقترحات التي يبدو انها لاقت الاستحسان ومن هنا جئت الى بيت الشعر.
وكيف كان رد فعل سلفك الشاعر المنصف المزغني؟
علاقتي بالشاعر المنصف المزغني هي بالتاكيد علاقة احترام متبادل، لذلك سارع بتهنئتي.. فور هذا التعيين، كما كانت الاجواء اكثر من حضارية اثناء تسليمي الادارة، ثم اني لست غريبا عن هذا الفضاء، فلقد كنت اتردد عليه سابقا. وثق ان المنصب لا يعنيني بقدر ما تعنيني الاضافة للساحة الثقافية وخدمة الشعر والارتقاء به الى مستويات مشرفة.
وما هي تصوراتكم المستقبلية لهذا الفضاء خاصة في ظل المنعرج التاريخي الهام الذي تعيشه بلادنا منذ 14 جانفي الماضي؟
من بين أبرز الاهداف التي سنسعى لتحقيقها في بيت الشعر هو بالتأكيد القطع مع ثقافة الماضي حتى نواكب ما تعيشه بلادنا من منعرج تاريخي منذ 14 جانفي 2011 وسنسعى الى اصدار مجلة سنحرص على ان تكون ذات مستوى راق وتضيف للساحة الفكرية والادبية وتكون مرجعا هاما للباحثين والدارسين والمهتمين بشؤون الشعر محليا وعربيا وعالميا.. فأنا مع الانفتاح على التجارب والثقافات الاخرى... من جهة اخرى سنعمل على الانفتاح على مختلف الاشكال التعبيرية الاخرى كالمسرح والموسيقى والسينما والفنون التشكيلية.. واقحامها في انشطة بيت الشعر.. كما سننقل برامج تنشيط هذا الفضاء الى فضاءات اكثر رحابة واعني بذلك خلق لامركزية ثقافية كأن تقام امسية شعرية باحدى الجهات وتكون خاصة ومقتصرة على أبناء تلك الجهة دون سواهم.
غياب المثقف عن واجهة الأحداث زمن الثورة وما بعدها.. كيف تفسره؟
غياب المثقف في اعتقادي له اسبابه وهي عديدة منها تدجين هذا المثقف على مدى سنوات.. حيث انخرط بدوره في لعبة الديكتاتورية. أي بدل ان يكون هذا المثقف هو الذي يقود اصبح تابعا وخادما للسلطة، هذا اذا لم يكن بوق دعاية لها في حين كانت مكافاة الذين رفضوا الخنوع والخضوع والإنضمام للقطيع دفع فاتورة باهضة -غالبا- اما انهم التزموا بالصمت العاجز او تعرضوا للتهميش والاقصاء او اجبروا على مغادرة البلاد.. لكل ذلك لا تستغرب غياب المثقف المنتمي للابداع عن واجهة الاحداث على عكس الشرائح الاخرى من المثقفين كالمحامين والقضاة وغيرهم.. الذين شاركوا بفاعلية في تحقيق الثورة وما بعد الثورة. لذلك تلاحظ ان المثقف وللأسف بقي خارج دائرة السلطة ومراكز القرار، وهذا طبيعي لاستمرار غيابه..
كيف يمكن لبيت الشعر ان يساهم في تقليص ما سميته انت في احدى الحوارات السابقة بظاهرة "المتكالبين على الشعر وعلى الشهرة المجانية"؟
هذا بيت للشعر وليس بيت للشعراء وعلاقتنا تعنى بالنص الشعري.. ولا تهتم بمن يريد أن يصبح شاعرا.. وهذا الفضاء مرفق عمومي مفتوح للجميع دون استثناء وسيظل كذلك.
المعروف عنك اهتمامك الى درجة العشق بالمدينة العتيقة وها انت تحط الرحال أخيرا لتسيير احد اركانها؟
للمدينة العتيقة سحرها وجاذبيتها وغموضها ايضا لامتزاج الحاضر فيها بالماضي.. وحبي للمدن العتيقة بشكل خاص لم يكن وليد اليوم بل يمتد الى سنوات اقامتي باوروبا وتحديدا بالمدينة العتيقة بجنيف.. حيث اروقة الفن والمسارح والتراث والتاريخ.. وظل هذا الشغف يسكنني بعد عودتي الى مدينة تونس.. وخاصة اثناء ترددي على المكتبة الوطنية فهنا تجد ان كل معلم يحتوي على تاريخ واحيانا اسطورة لا تخلو من عجائبية ثم ان للمدينة العتيقة ذاكرة اكثر خصبا من ذاكرة المدينة الحديثة لذلك هي تمنحك احساسا بالثراء والامتلاء.
من الشعر الى السرد. هل يعني ذلك ان الشكل التعبيري الشعري قد يصبح قاصرا احيانا ولم يعد القصيد ذلك المناخ الذي يستوعب بعض الاشكال التعبيرية؟
الرواية اعم واشمل لاستيعاب ما يجيش بالخاطر.. باعتبارها عالم فسيح ورحب يستوعب المتناقضات والعلاقات المختلفة.. بما في ذلك كل اشكال الكتابة وحتى الشعر نفسه.. والقصيد يقوم على التجريد والاختزال. والواقع ان فن الكتابة.. وكل عمل ابداعي عندما يصل الى تخومه القصوى يصبح حالة من حالات الكشف ورؤية تفتح على عوالم جمالية لا يمكن ادراكها في الحالات العادية.. والرواية الحديثة - منها بشكل خاص- هي الجنس الادبي الوحيد الذي يمكن ان يحتوي اجناسا واساليب ادبية شتى والامثلة على ذلك من الكثرة بحيث لا تحتاج الى ذكر. وبعبارة ادق هي الجنس الادبي الاكثر قابلية للتشكل وهي هنا تفوق القصيدة نفسها رغم ما بلغته هذه الاخيرة من قدرات تشكيلية في العقود الاخيرة وانا اشير هنا الى القصيدة العربية دون سواها، من الطبيعي جدا اذن ان تتسع الرواية للزخم الروحي والشعري الذي اشرت اليه لأنها اوسع مدى من القصيدة.. واقدر بالتالي على استيعاب ألوان شتى من الانفعالات والرؤى والاحلام وتداخل الامكنة والازمنة.. وقد عمدت الى بعثرة العديد من قصائدي في ثنايا الرواية حتى اختفت ملامحها الاولى واصبحت جزء لا يتجزأ من النسيج السردي.
في حوار سابق لاحدى المجلات العربية صرحت بأنك سعيت الى ان ترتقي بالشعر. كيف ذلك؟
الابداع الحقيقي هو الذي يرتقي ليبلغ مرحلة الكشف، وقد حاولت واجتهدت منذ وعيت ذلك الى تحقيق ولو الحد الادنى من هذه المهمة الصعبة وكانت وجهتي الى ذلك اللغة والاكيد انك لاحظت من خلال اطلاعك على مدونتي الشعرية مدى احتفائي باللغة وصراعي معها في الوقت نفسه فانا لم اتعامل مع اللغة كأداة حيادية لأنها عندي كمطلب عصي اسعى جاهدا الى تحقيقه.