أي أولويات وأي صلاحيات يجب تحديدها كأولى الخطوات لبدء تركيز آليات العدالة الانتقالية وتحقيق مسار الانتقال الديمقراطي والانطلاق "فورا" في كشف الحقائق وتفكيك منظومة الفساد التي أنهكت قوى المجتمع التونسي بكل مكوناته وقطاعاته؟ سؤال محوري ومصيري حاول الإجابة عنه المشاركون يوم أمس في ورشة عمل حول "مقاربة المجتمع المدني في وضع إطار قانوني للعدالة الانتقالية في تونس" نظمها كلّ من المعهد العربي لحقوق الإنسان والمركز الدولي للعدالة الانتقالية لمناقشة تصور مشروع إطاري لإرساء مسار متكامل للعدالة الانتقالية أعدته التنسيقية الوطنية للعدالة الانتقالية في إطار مجموعات عمل انقسمت إلى ورشات ثلاث.. اهتمت الأولى ب"الاختصاص الزمني والمادي وجبر الضرر ودور الضحايا" سيرت أعمالها المحامية نزيهة ذويب بالاستناد إلى خبرة الأستاذ روبن كارنزا من المركز الدولي للعدالة الانتقالية، فيما اهتمت الورشة الثانية ب"الصلاحيات المتعلقة بالعدالة الانتقالية" أشرف عليها المحامي العياشي الهمامي مستندا إلى خبرة الأستاذ لوك كوت من نفس المركز، في حين تناولت المجموعة الثالثة "الاستراتيجيات الواجب تتبعها في خصوص مشروع التنسيقية " أدارتها المحامية إيمان البجاوي مستأنسة بخبرة الأستاذ حبيب نصار مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال افريقيا بالمركز الدولي للعدالة الانتقالية. تعثر المسار وقد لاحظ المشاركون في هذا اليوم أن المساعي التي تبلورت منذ الأشهر الأولى من اندلاع الثورة كانت كثيرة ومتعددة لمحاولة وضع مفاهيم للعدالة الانتقالية وتحديد آليات ومجالات عملها باعتبارها "تهتمّ بتنمية مجموعة واسعة من الاستراتيجيات المتنوعة لمواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي وتحليلها وتطبيقها عمليا بهدف خلق مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية ". وورد على لسان السيدة لمياء قرار المديرة التنفيذية للمعهد العربي لحقوق الإنسان ان العدالة الانتقالية "تهدف إلى التعامل مع إرث الانتهاكات بطريقة واسعة وشاملة تتضمن العدالة الجنائية وعدالة جبر الضرر والعدالة الاجتماعية والاقتصادية" مؤكدة على أنّ هذه العدالة" تنبني على سياسة قضائية مسؤولة يجب أن تتضمن تدابير تتوخى هدفا مزدوجا وهو المحاسبة على جرائم الماضي والوقاية من وقوع جرائم جديدة مع الأخذ في الحسبان الصفة الجماعية لبعض أشكال الانتهاكات". إشكاليات عدة بدورها تقف أمام أولى حلقات مسلسل العدالة الانتقالية التي شهدت تعثرا واضحا خلال الفترة الفارطة التمسه المختصون كذلك الشارع التونسي وأشار إليه المتدخلون في ورشة العمل "فما تمّ تكريسه اليوم من خطوات لا يعد تكريسا لأسس منظومة العدالة الانتقالية" كما أشار الأستاذ شفيق صرصار في مداخلته حول "الخطوات المقطوعة في تونس في مجال العدالة الانتقالية"، إلى أن ما يحسب للفترة الفارطة هو وجود التراكم الملائم لتركيز الأسس الأولى للعدالة الانتقالية من خلال ما أفرزه المجتمع المدني لنخبة حاملة لتصورات العدالة الانتقالية مع افراز مسودات لمشاريع تنظم هذه العدالة سيقع اقتراحها وتقديمها لمختلف القوى المشاركة في هذا المسار".
"دسترة الحقوق"
في نفس السياق أكد الأستاذ عبد الباسط بن حسن رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان أنه من الضروري "البحث عن التوافقات الكبيرة والجماعية والخروج من منطق الإقصاء والتفرد بالمبادرة والتقدم بمقترحات عملية لتحقيق العدالة الانتقالية مواصلة لجملة المكتسبات التي أفرزتها الثورة (من إرساء لمختلف مبادئ الحريات) والعمل على دسترة الحقوق وضمانها والسعي إلى إصلاح مختلف المؤسسات وعلى رأسها الأمنية والقضائية إلى جانب تحليل الأسباب العميق للاستبداد وكشف وتفكيك رموز منظومته" ويعود هذا التعثر، كما أوضح ذلك جل المشاركين، إلى غياب الإرادة السياسية لإرساء هذه العدالة قبل مرحلة انتخاب المجلس الوطني التأسيسي أما الآن فقد وجدت طريقها بعدها ببعث وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، فأثارت العديد من الاحترازات والمخاوف دحضها السيد سمير ديلو وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية والناطق الرسمي باسم الحكومة خلال افتتاحه أمس لورشة العمل مشيرا إلى أنّه "لا وجود لأي نية ولا مصلحة للحكومة بأن تضع يدها على هذا المسار وعلى هذا الملف" مؤكدا أنّ "الوزارة ستعمل على تسهيل المهمة وتوفير الإمكانيات المادية والبشرية لتحقيق الأهداف بوضع الإطار القانوني الملائم للعدالة الانتقالية وإيجاد آليات للتسوية المبنية على الوفاق الوطني الذي يجب أن يكون بعيدا عن أي تجاذبات سياسية وإيديولوجية من خلال تفعيل جهود مكونات المجتمع المدني ذات الصلة".
لا للتهميش
ولئن كان بعث وزارة خاصة بمجال حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية تجربة فريدة من نوعها لم تشهدها دول أخرى مرت عليها رياح الثورة، فإنه لا يجب أن يفوت الساهرين عليها أن مجال العدالة الانتقالية هو أولا وآخرا "من مشمولات المجتمع المدني ويجب أن يبقى كذلك" كما بيّن السيد عمر صفراوي منسق التنسيقية الوطنية للعدالة الانتقالية أنه" لا مجال بأن تهمش الوزارة دور المجتمع المدني" وأنه يجب ان العمل تشاركيا يستند أساسا على التنسيق والحوار "فالوضع الراهن الذي تشهده البلاد إلى جانب النسق البطيء الذي سيطر على عمل الحكومة بتأخرها في وضع الآليات لتحقيق العدالة الانتقالية بالإضافة إلى ارتباك القضاء في معالجة العديد من القضايا الواردة عليه كل ذلك يستوجب توفير المناخ والظروف لإرساء عدالة انتقالية تبدأ بأخذ إجراءات عاجلة لإصلاح المنظومة القضائية" في نفس السياق بين السيد حبيب نصّار مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالمركز الدولي للعدالة الانتقالية أنّ المجتمع المدني والدولة هما الركنان الأساسيان للعدالة الانتقالية باعتبارها نتيجة حتمية لجملة من الحوارات وليست حلولا جاهزة تُسقط من فوق، وعلى أساسه من المؤكد أن المجتمع التونسي سينتج تجربته الخاصة من خلال تظافر الجهود والانطلاق في حوارات شاملة عملية وهادفة" أولى أولوياتها كما حددها الأستاذ روبن كارنزا من المركز الدولي للعدالة الانتقالية "تحديد كيفية التصرف في جملة الإنتظارات سواء من الذين انتهكت حقوقهم بصفة خاصة أو من المجتمع التونسي بصفة عامة".