أول حساب لبن علي في الخارج أودع فيه «رشوة» السماح بصيد الحبارى والغزال احتل موضوع صيد الحبارى من قبل الأمراء السعوديين والخليجيين خلال المدة الأخيرة حيزا من اهتمامات الرأي العام. فأهميته قد لا تتراءى للبعض من أول وهلة أمام المشاكل المتعددة والعويصة التي نعيشها حاليا: انفلات أمني، فقر، بطالة الخ.. ولكن ذلك لا يمكن أن يغيّب عنا دلالات الموضوع العميقة. فطائر الحبارى محمي دوليا بموجب اتفاقات صادقت عليها تونس، ورغم ذلك فقد سمح «الزين بابا» للأمراء السعوديين والخليجيين بصيده، لأنه كان يقبض المقابل كل سنة، ويبدو متأكدا أن أول حساب بنكي فتحه الرئيس المخلوع في الخارج هو الحساب الذي أنزل فيه بسويسرا الصك الذي قبضه من أمير سعودي! في أوائل سنة 1988 ولذلك فإنه من غير المقبول، وتحت أي مبرر، أن يتواصل هذا الأمر بعد الثورة. إن السلطة الحالية، التي ظننا أنها ستقطع مع ممارسات الماضي، خيّبت ظننا كثيرا، فقد تعاملت مع الموضوع بتعتيم مطلق، فإلى اليوم لم تصدر أي موقف حول الموضوع، ولم تكلف نفسها عناء إنارة الرأي العام، أي أنها تتبنى نفس المنظومة التي تعامل معها بن علي في هذا الشأن. إن الثروة الحيوانية الفطرية، هي ملك للشعب ولأحفادنا، وليست ملكا للسلطة حتى تتصرف فيها كما تشاء ارضاء ل«أصدقائها». وللإحاطة بهذا الموضوع من كل جوانبه، كان لنا لقاء مع السيد علي الحيلي العميد الشرفي لكلية العلوم بتونس، والرجل المعروف بنضاله في مجال حماية الطبيعة عموما والطيور أساسا، والذي كان أول صوت ارتفع في وجه الرئيس المخلوع منددا بشدة ودون قفازات بالمجزرة التي تحدث في بلادنا كل شتاء، مستهدفة الحبارى والغزال، فكان أن أقصاه «الزين بابا» من جمعية أصدقاء الطيور بفضل انقلاب من ذلك النوع من الانقلابات التي برع فيها لزعزعة الجمعيات والنقابات (نقابة الصحفيين مثالا) والأحزاب المعارضة. جمال الدين بوريقة
٭ لقد تردد في وقت ما، أن الأمراء السعوديين والخليجيين بذلوا محاولات مستميتة خلال عهد الرئيس بورقيبة لاشتراء ذمتك حتى لا تعارض مبدأ السماح لهم بصيد الحبارى والغزلان في الصحراء التونسية، فهل هذا صحيح؟
نعم هذا صحيح، فقد بدأت الاغراءات منذ نهاية السبعينات من قبل أمراء سعوديين، فقد أهدوا لي أجهزة الكترونية (فيديو وكاميرا)، ولما أرجعتها لهم ظنوا أن «ثمني»، أي ثمن اشتراء ذمتي هو أرفع من ذلك، فعرضوا عليّ سيارة من آخر طراز وأفخمه اختارها بنفسي. كما عرضوا عليّ عطلة خالصة في اسبانيا أو في باريس، أو انزال مبالغ مالية في حساب خاص يفتح باسمي في الخارج، الى غير ذلك من الاغراءات المماثلة، فرفضت رفضا قاطعا. ورغم ذلك فقد تسلل هؤلاء من الصحراء الليبية نحو تونس في نهاية السبعينات، فهرولت نحو حسان بلخوجة وزير الفلاحة آنذاك (رحمه الله)، وأعلمته بالموضوع، فرفع سماعة الهاتف واتصل بوالي مدنين الذي أجابه «بأن الأمر يتعلق بأمير كبير من العائلة المالكة السعودية»، فرد حسان بلخوجة بغضب شديد «أمير في بلادهم، توه تطرّد (...) أمّو..» وقد استعمل بلخوجة في شأنه كلمات بذيئة!
شتان... ٭ وماذا تغيّر بعد قدوم بن علي للحكم؟
أشياء كثيرة تغيرت، ففي بداية الثمانينات أبحر الآغاخان على متن يخته الخاص من جزيرة سردينيا بإيطاليا نحو تونس، ولما دخل المياه الاقليمية التونسية مر بالقرب من جزيرة زمبرة فأعجبته كثيرا، وبما أن علاقة صداقة كانت تربطه بالحبيب بورقيبة الابن، فقد اتصل بهذا الأخير وعبر له عن رغبته في شراء الجزيرة وبأي ثمن، فجاءه الجواب سريعا وواضحا: تونس ليست للبيع. أما في عهد بن علي فكادت هذه الجزيرة أن تباع لرجل أعمال صيني، فقد اتصل بي آنذاك المسؤول عن الأشغال الكبرى، ويدعى التلاتلي على ما أتذكر، وطلب مني مده بمعطيات حول جزيرة زمبرة لاتمام «الصفقة» مع المستثمر الصيني، فذكّرته بالموقف المشرف للحبيب بورقيبة الابن وبما قاله للآغاخان. وحرص الحكومة التونسية في عهد بورقيبة على حماية الثروة الحيوانية لا لبس فيه. ففي 1979 قامت الرابطة العالمية لحقوق الحيوان بوضع تونس في قائمتها «الشرفية» (son palmarès) ومنحتها ميدالية تم تسليمها الى سفيرنا بباريس من قبل الأستاذ ألفريد كاستلر، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء، الذي «نوّه بمجهودات الأستاذ علي الحيلي الذي تميز بأعماله حول حماية الحيوانات». فلا يمكن اطلاقا وبأي وجه من الوجوه المقارنة بين فترة حكم بورقيبة وفترة بن علي، فشتان بين العهدين، وموقف حسان بلخوجة كاف لنفهم الفارق الكبير.
اشتروا رئيس الجمهورية ٭ حسب رأيكم لماذا سمح بن علي للسعوديين بالصيد في تونس؟
اثر وصول بن علي للحكم، تجددت المحاولات لإغرائي بعدم التصدي لهم، ولكنني حافظت على نفس الموقف ولم أحِد عنه، آنذاك نجح الأمراء في «اشتراء» رئيس الجمهورية نفسه بأن دفعوا له «صكا» استعمله في فتح أول حساب بنكي له في الخارج، وذلك بعد أقل من 3 أشهر من وصوله للحكم (جانفي 1988) أي أن فساد بن علي متأصل فيه وبدأ منذ الأسابيع الأولى لحكمه.
٭ لماذا هذا الإصرار من قبل الأمراء السعوديين على الصيد في تونس؟
الأمراء السعوديون والخليجيون بدأوا بالقضاء نهائيا على طائر الحبارى والغزال، بل على كل الثروة الحيوانية الفطرية في بلدانهم أي في السعودية وفي كل بلدان الخليج، ثم تحولوا الى المغرب والجزائر حيث قضوا أيضا القضاء المبرم على هذا الطائر ولم يتركوا له أي أثر، ولم يبق أمامهم ما يصطادونه، ولذلك اتجهت أنظارهم نحو تونس.
٭ هل لم يكن من الممكن «الأخذ بخاطرهم» والسماح لهم بالصيد مثلا لفترات قصيرة جدا، وبوسائل تقليدية لا تهدد التوازن البيئي؟
(وهنا ابتسم السيد علي الحيلي ليجيب): لما تعاظم الضغط عليّ وتحول حتى الى نوع من الاستعطاف، بدعوى أن صيد الحبارى هو تقليد «شبه مقدس» موروث عن الأجداد، تظاهرت بالقبول ولكن اشترطت أن يتم الصيد أيضا على طريقة الأجداد، أي على ظهور الجمال عوض السيارات الرباعية الدفع (4X4) وبواسطة القوس والسهام عوضا عن البنادق الحديثة!!
حملة عالمية
ولما بدأت رحلات أمراء الخليج الشتوية الى الجنوب التونسي لصيد الغزال والحبارى، مع ما يجلبونه معهم من عدة وعتاد، كاتبت بن علي بلا كلل ولا ملل، وخلال اجتماع لمجلس الوزراء، جذب من جيبه احدى رسائلي وقرأها على وزرائه، ثم التفت نحو وزيري الفلاحة والبيئة ولامهما على ما يحدث!! فلم يجد أي منهما جوابا!! رغم أنه هو الذي يصدر حصريا الأوامر في هذا الموضوع!!
٭ لكن الكتابة الى بن علي والضغط عليه لم تثمر شيئا في نهاية المطاف، فهل حاولتم انتهاج طرق أخرى لحماية ثروتنا الحيوانية؟
نعم، إنني لم استسلم بعد أن تأكدت بصفة قاطعة من تبني رئيس الجمهورية لخطاب مزدوج حول الموضوع، ومن تعمده الكذب المفضوح وسياسة الاستبلاه، فقد أطلقت منذ بداية التسعينات حملة تشهير وتنديد بما يحدث في تونس، ووجّهت رسائل احتجاج سنة 1991 الى منظمات حماية الطبيعة في العالم، موصيا إياها بالاحتجاج لدى رئيس الجمهورية التونسية وهو ما فعلته، وفي بداية سنة 1992 اصطحبت وفدا صحفيا ألمانيا الى مخيمات الأمراء في الجنوب، حيث عاينوا المكان وعثروا على كميات هامة من ريش الطيور وعظام الغزلان..
بعد الثورة! ٭ هل أن صيد الحبارى تواصل بعد الثورة؟
نعم وبأكثر عنف وكثافة، فقد زارنا هذه السنة أمراء من مختلف الجنسيات العربية، ومن بينهم قطريون، كما شجع صمت السلط وتسامحها التونسيين أنفسهم على الصيد في الصحراء، وما يجري حاليا هو جريمة ومجزرة حقيقية لهذا الطائر وللغزلان يجب أن يوضع حد لها في أقرب وقت. بل الغريب أن هناك وكالات أسفار وضعت على الأنترنات مؤخرا اعلانات لتنظيم رحلات لصيد الغزال والحبارى.
٭ في الختام، وبعيدا عن موضوع الحبارى، هل صحيح أن المرحوم الهادي نويرة عرض عليكم وزارة فرفضتم؟
نعم، فقد تقرر خلال سنة 1978 بعث وزارة للتعليم العالي والبحث العلمي، فاقترح الهادي البكوش اسمي لتوليها، فما كان من الهادي نويرة إلا أن أعد قرار التعيين وسلمه لبورقيبة الذي وقعه، آنذاك اتصل بي نويرة لإعلامي وتهنئتي فرفضت هذا المنصب لسببين، الأول سياسي، وهي أن القيادة الشرعية لاتحاد الشغل كانت آنذاك في السجن، والثاني أنني أنشأت مخبرا علميا في كلية العلوم وفضّلت أن أؤطر طلبتي عوضا عن الوزارة.