- تكمن أهمية هذا الكتاب (باللغة الفرنسية) في أن كاتبه عاشر الزعيم بورقيبة، واشتغل تحت إمرته، وتحمّل المسؤوليات السياسية والثقافية في حكوماته المتعاقبة طيلة نصف قرن.. ولكنه من بين القلائل من جيله الذي يعرف تلافيف البيت البورقيبي من الداخل، ويعرف الرجال والنساء، ومناطق النفوذ ومناطق الضعف كما يعرف عقلية الزعيم ومرامي قراراته وأسلوبه في الحكم ونظرته للدولة وللبلاد وللناس. لذلك أقبلت على قراءة الكتاب باهتمام خاص ووجدته على قلة عدد صفحاته (184 ص) مليئا بالإيحاءات، حتى يخيّل إليك أن المسكوت عنه -عمدا- أكثر بكثير من المشار إليه وقد وجدت فيه مزيجا من التأملات الفكرية مع التحليل التاريخي لأحداث مفصلية عاشتها تونس تحت الحكم البورقيبي. وهو لذلك ليس كتاب تاريخ بالمعنى الحرفي للكلمة وليس كتاب سيرة، ولكنه يعمد للتحليل التاريخي لشخصية الزعيم من خلال بعض مراحل جهاده من أجل الاستقلال، كما يركز على قراءة داخلية لأهم قراراته وهو بصدد بناء الدولة الوليدة، حتى يخيّل للقارئ وكأنه يراه على مسرح العمليات وهو يخطط، وهو يحرك الرجال من حوله، وهو يحارب مناوئيه ويسقطهم الواحد بعد الآخر. أفكاره واضحة، وطريقه مرسومة أمامه بتصميم، والويل لمن يحاول اعتراض سبيله. ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ الشاذلي القليبي لا يغفل عن التنبيه بأن ما يذكره من أحداث وما يعمد إليه من تفسير أنما هو اجتهاد شخصي، وقراءة ذاتية انطلاقا من تأملاته ومما عايشه وخبره عن قرب من الزعيم الراحل. فجاءت النتيجة مروية بأسلوب رقيق ومتمكن ينجذب إليه القارئ ليدخل في مغامرة لذيذة يستعيد فيه مقاطع مهمة من شخصية زعيم وطني «ملأ الدنيا وشغل الناس». إلا أن القليبي لا يتوقف عند استعادة المواقف البطولية للزعيم وما تخللها من انتصارات، بل يعمد إلى التحليل والتنقيب عما واجه الزعيم من خيبات وما اتخذ من قرارات فردية جلبت على البلاد النكسات. من ذلك إشاراته إلى اتخاذ قرار المواجهة في «حرب بنزرت» وما أثارته من انتقادات وصلت إلى أعلى الدرجات في دوائر الحزب الدستوري الحاكم وكذلك الشأن بالنسبة للصراع مع الغريم الأول «صالح بن يوسف» فيربط الأحداث ببعضها في ذكاء وبراعة العارف ببواطن الأمور، حيث يلمح بأن بورقيبة لم يكن يرغب أصلا في الوساطة مع بن يوسف قبل أو أثناء مؤتمر صفاقس وأن الخيار الأفضل له هو القطيعة مما يفتح الطريق للانفراد بالسلطة نهائيا وبدون منازع. لقد كانت سياسة بورقيبة تعتمد دوما البراغماتية وتتخذ المراحل سبيلا للتحقيق ولكنها أيضا تعتمد على الثوابت في شخصية الرجل وهي التأكيد والتصميم على تغيير الواقع التونسي المتخلف والعمل على إزالة العقبات أمامه مهما كانت.. ومما استوقفني وشدّني في جزء غير يسير من الكتاب هو توقف الكاتب مطولا عند أول اصطدام بين بورقيبة والاتحاد العام التونسي للشغل، إذ رأى فيه الكاتب مبكرا مؤشرا جديا يمكن أن يهدد حكم الزعيم الأوحد والقائد الملهم من قبل المنظمة الشغيلة بقيادة «زعيم شاب متقد الذكاء يسمى أحمد بن صالح» وكأن الصراع قد بدأ عمليا منذ ذلك الوقت المبكر بين «الوحدة الشعبية» والشعار المقدّس المرفوع وقتها «الوحدة القومية»، ولم يخف الكاتب أن الزعيم بورقيبة تهيّأ بكل جدّ لهذه المنافسة إلى درجة الإقدام على شقّ الصفوف النقابية والإيعاز بإنشاء اتحاد نقابات منافسة للاتحاد العام والعمل بكل قوّة على إقالة أحمد بن صالح قبل العمل بعد ذلك على استيعابه ضمن مؤيديه لبناء الدولة الحديثة مستعملا في ذلك كل الطاقات المتاحة.. وبقدر ما يقرّ الكاتب بأهمية الإنجازات التي تحققت في تونس اقتصاديا واجتماعيا إلى جانب بناء الدولة واستقرار الإدارة وتحرير المرأة وقيام المؤسسات الدستورية، بقدر ما يقرّ بانصراف بورقيبة عن إرساء الديمقراطية في البلاد بل يذهب إلى التأكيد بأن بورقيبة كان يعتقد بأن الشعب غير مهيّإ للديمقراطية، وأن وجوده على رأس الدولة كفيل وحده بصيانة استقرار البلاد وإسعاد شعبه، لأنه الرئيس على كل شيء والأوامر لا تصدر إلا منه وباسمه في كل حين وفي كل مكان... وهنا يشعر القارئ المتأمل أن الكاتب يتخلى أحيانا عن مهمة السرد والوصف ليفسح المجال لقلم الناقد الواعي بمأزق الحكم الفردي الذي تردّت فيه الجمهورية، فيحكي بعض الطرائف عن سلوك الرئيس وتناقضاته ملمحا -بتهكم خفيف- أن الرئيس انزعج من كلمة قصر البلدية في قرطاج على أساس أن وصف القصر هو مقصور عليه وحده، مما حتم تغيير الاسم إلى دار البلدية...» لكن أغلب النقد المباشر إنما يذهب إلى بطانة الرئيس والدائرين في فلك القصر الجمهوري والحزب وأولئك المتزلفين المتسلقين لنيل الرضا في كل عهد. إن ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب العميق في كل ما تناوله من أحداث وقضايا هو اطلاعه على المنهج البورقيبي المعروف بتغليب «الأهمّ على المهمّ» في البحث والتحليل، فهو لم يغفل أهمّ القضايا التي شكلت انتصارات العهد البورقيبي مثل الثورة الاجتماعية، وتعميم التعليم وتعصير الإدارة، وإقرار حرمة الدولة، ولكنه يتصدّى بكل شجاعة لتشخيص نكسات العهد، بل إنه يتوقف عندها فاحصا ناقدا بأسلوب يذكرك بكتابات أحمد ابن أبي الضياف دون تجريح أو رغبة في الانتقام. ولا أدري هل أن الأستاذ القليبي كان قاصدا إبلاغ رسالة ما، وهو يتحدث عن صديقه، ورفيق دربه كما يصفه دوما وهو الأستاذ أحمد بن صالح، فكلما أتى ذكره إلا وتغيرت لهجة الكتابة فتصبح أكثر توهّجا وأقل ترددا وكأنها رسالة مباشرة من محبّ صادق وصديق غيور حتى أنني شعرت أن هناك خطا بيانيا في كتاب يربط في مسيرة النضال كما في المحنة، وفي الحكم والمجد كما في القطيعة والتمزق بين الرجلين وبين عبقريتين متقابلتين: بورقيبة وبن صالح. فبورقيبة هو مهندس التحرير وصانع الاستقلال، وبن صالح هو مهندس «البرنامج الاقتصادي» الأول الذي ارتكز عليه الزعيم لإعطاء معنى لتغيير المجتمع في الدولة الوليدة. حتى جاء زمن القطيعة بين الرجلين وقد ترافق كل ذلك مع انهيار الطاقة البدنية والفكرية عند الزعيم، وأصبح الحكم قاصرا عند الغروب على الأزلام ونساء القصر والعائلات القريبة والمتصاهرة... ثم تسارعت المظالم بعد مراجعة التجربة التعاضدية وتكلست أوصال الدولة وسرى الوهن في كامل الجسم حتى حافة القبر، وصولا إلى نوفمبر الغروب. ماذا يتبقى بعد قراءة هذا الكتاب؟ يتولد عند القارئ شعور بالاستزادة في القراءة والاطلاع، ونوع من اللهفة للتعرف على خفايا وأغوار العهد البورقيبي الكامنة في الذكريات، وتفور تساؤلات كثيرة عن حقبة بن صالح، ودور «الماجدة وسيلة» وتأثير القوى الخارجية في قرارات الدولة، وما خلفه زلزال سنة 1969 في الحزب والدولة وخاصة تأثير ذلك على حكم بورقيبة وشخصيته الدفينة وهواجسه مع ضميره في ليالي الأرق ومصحّات الاستشفاء.. أما الأسلوب فهو من نوع الأدب الراقي الذي يثقف دون إرهاق، ويحلل دون إغراق ويقدّم المعلومة دون تكلف أو إملاء. ولعل انتظار الترجمة العربية للكتاب سوف تقدّم لقراء الضاد أبعادا جديدة لعهد الزعيم الفذ، وفي عهد لا يمكن للمرء أن يفلت فيه من مغامرة المقارنات المستحيلة./.