مهمة شاقة تجشّم عناء حمل اعبائها الدكتور عبد الرحمان عبيد بخوضه غمار التجديف ضد التيار... تيّار الخطاب الرسمي والقراءة المصلحية الآنية للاحداث والتطبيل الاعلامي، فكان «الثمن الاولي او الافتتاحي» الذي دفعه حجز كتابه حوالي اربع سنوات ثم كان الافراج عنه قبل فترة وجيزة ونحن لسنا في حاجة الى وصف معاناة باحث عن كشف الحقائق وسياسي عندما تُعتقل أفكاره وتسجن اراؤه ولانها لم تسر في ركب «القراءة الرسمية» للاحداث التاريخية. «محاكمة احمد بن صالح ربيع 1970، من يحاكم من؟» هو عنوان الكتاب المفرج عنه للدكتور عبد الرحمان عبيد. تاريخ الاصدار المفترض سنة 2004، اما تاريخ الحصول على «العفو» وذلك بعد الغاء الايداع القانوني فكان سنة 2008. وليسمح لي المؤلف بالقول اني اتفهم جيدا أسباب المنع فللحجز مبرراته واسبابه المتصدّرة، انّ الدكتور عبد الرحمان عبيد لم يتجرّأ على الاتيان برأي مخالف فحسب وإنّما عمد الى إزاحة غشاوات وإزالة حجب لقد استنطق الخطب والوثائق الرسمية والتحقيقات البرلمانية والقضائية والمقالات الصحفية والحوارات التلفزيونية ليكشف عن زيف المغالطات التي ارتقى بها البعض الى مستوى الحقائق... كتاب الدكتور عبد الرحمان عبيد لا يمكن ان يكون بأي حال من الاحوال مجرّد رقم في مكتبتنا التونسية خصوصا والعربية عموما، بل إنه معول لهدم التماثيل التي نسجناها بالبروباغندا السياسية والدعاية الاعلامية وهو كذلك محاولة جادة للمساهمة في اعادة قراءة فترة مهمة من تاريخنا المعاصر بعيدا عن ثقافة التزييف وتزوير التاريخ والنفخ في صور البعض على حساب من ارادوا خيرا وزادهارا وتنمية لهذا الوطن. طالعوا هذا الكتاب إننا لن نعمد في هذه الورقة او هذا المقال الى تقديم قراءة في الكتاب الجديد بقدر ما سنحرص على الامانة في نقل بعض ما فيه تحريضا منا للقراء على الاطلاع على محتواه، ومساهمة منا في الاشارة الى عديد المحطات المهمة في عشرية الستينيات من القرن الماضي وهو ما من شأنه ان يسهم في الجدل البناء والثري ليس بين الشهود على العصر والفاعلين فيه فقط وانما كذلك بين المثقفين والسياسيين والنقابيين وعموم المواطنين. ونحن على يقين بأنّ ما جاء في الكتاب من افكار وآراء ومواقف وتحليلات واوصاف «ستزعج» الكثير من الاحياء والاموات على حدّ سواء ومعلوم أنّ «ذكْر الاموات بخير» لا يعني البتة ذكرهم بما ليس فيهم كما انه لا يعني الاستمرار في نهج تزييف الحقائق والكذب على التاريخ حتى لا نزعج من غابوا عن أنظارنا وعن المشهد الاجتماعي والسياسي... فالموت لا يمكن ان يكون حصانة من القراءة التاريخية. من يحاكم من؟ يقع الكتاب في 560 صفحة وهو على جزأين الجزء الاول «في المحاكمات السياسية» وتمتد هذه المحاكمات لتشمل محاكمة السلطة التنفيذية والحزبية ومجلس الامة ووسائل الاعلام، اما الجزء الثاني فعنوانه «المحاكمة القضائية» لعضو الحكومة في الستينيات ومهندس التعاضد أحمد بن صالح وفيه دعا الكتاب صراحة الى محاكمة المحكمة وقد حاكمها بالفعل من خلال ابراز عدم دستورية انشائها وارتهانها الشامل والكلي الى ما قرّرته اللجنة البرلمانية التي كانت «ناطقا رسميا» باسم اوامر رئيس الدولة حينها الحبيب بورقيبة وتوجيهاته... لم يختر الدكتور عبد الرحمان عبيد سبيل التواري والتخفي بل سدّد سهامه النقدية منذ الكلمات الاولى التي خطّها في المقدمة، فنفى ما كرّسه الخطاب الرسمي من قول إن فشل التعاضد كان بسبب تسرّع أحمد بن صالح في التعميم وسوء تصرّفه المالي وسعيه للانقضاض على الحكم من خلال تطبيق البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي أقره الاتحاد العام التونسي للشغل سنة1956 وأكد ان السبيل الاساسي لكشف الحقائق واستنطاق الوثائق وتحليلها ومساءلتها عن مضامينها ضمن الظروف والملابسات التاريخية التي كتبت فيها او قبلت خلالها. لقد أكد الدكتور عبيد منذ الاسطر الاولى للمقدمة انحيازه للزعيم أحمد بن صالح بما هو رجل سياسة عمل على القطع مع الجشع والاستغلال والخذلان والعمالة والاستماتة على مبادئه كما اشارالى المسؤولين عن افشال التعاضد اي اصحاب «التوجهات الليبرالية والفئات الاستغلالية والانتهازية وما إليها من القوى الاجنبية والرافضة منها لتصفية الاستعمار». ولاحظ عبيد في المقدمة انه من طريف ماتؤكده النصوص والوثائق ان السيد احمد بن صالح على الرغم من تحسسه نسبيا لنرجسية بورقيبة ومن شديد وعيه بميول الزعيم الاغترابية انّ لم نقل تمغربه الصرف، فإنه لا يشك في عمق وطنيته وفي تغلغل الروح الشعبية في اعماقه بل أودعه مطلق ثقته بل كان مبهورا منذ الطفولة بعبقريته وظل وفيا لتلك القناعات متفانيا في تجسيدها متصديا للذود عنها على امتداد مراحل نضالاته حتى ايام الاعتقال مرورا بما لاقاه من الغدر... وتتمثل الفرضيات الاساسية التي بنى الدكتور عبيد عليها عمله في أن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة لم يتأثر في الانقلاب على التعاضد بالقوى الداخلية بقدر تأثره بالاطراف الاجنبية ولا سيما كل من فرنسا والبنك الدولي توجسا من ملامح النجاح وما قد يكون له من الاثر في العالم الثالث وفي نوعية الحكم في الداخل كما ان بورقيبة لعب على توافق المصالح ووظف القوى المناهضة بالداخل لسحق البرنامج الاقتصادي (التعاضد)... ووظف بن صالح نفسه لكسب معركة التأسيس واختراق خصومة موضوعيا في غياب حُسْن الانتباه لواقع عقد بورقيبة تجاه الحكم بفعل تمكّن القيم تحت سجوف «الوحدة القومية» و»الاشتراكية الدستورية». من انقلب على من؟ في الجزء الاول من الكتاب حاول الدكتور عبد الرحمان عبيد إبراز جذور الانقلاب... اي انقلاب بورقيبة وحكومته والحزب ومجلس الامة على البرنامج الاقتصادي الذي صادق عليه الجميع وكان الرئيس الحبيب بورقيبة في مقدمة المدافعين عنه وللاشارة فان في اختيار الكاتب لعبارة انقلاب أكثر من مغزى من بينها تأكيد ان الحكومة ومجلس الامة والحزب انقلبت على اختياراتها وليس احمد بن صالح هو من حاول «الانقلاب» على بورقيبة من خلال تطبيق التعاضد بما هو تحسيد لما جاء في البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي صادق عليه اتحاد الشغل سنة 1956. الانقلاب كان كذلك من بورقيبة على نفسه، فبعد ان اغدق على بن صالح ما شاءت قريحته من اوصاف وفي مقدمتها «العبقري» اصبح لا يتردد في تحميله المسؤولية الكاملة عن الفشل وسوء التصرف وخيانة الثقة والمغالطة متذرعا بالمرض وجهل الحقيقة بسبب وضعه الصحي واضطراره للسفر للعلاج، وللتذكير فان بورقيبة انتقل من وصف بن صالح بالفتى الالمعي الى «رأس الافعى». الدكتور عبيد حلّل في الجزء الاول عددا من خطب بورقيبة مستنطقا إياها عن طريق مجادلتها ومحاكمتها سواء بإبراز تناقضاتها الداخلية أو بمقارنتها بأقوال سابقة للرئيس الراحل كما أشار الي ان تلك الخطب مسّت من مصداقية الرئيس السابق وكشفت عن بعض الاطراف التي كانت تقف وراء الانقلاب سواء داخليا (الاتجاه الليبرالي بقيادة احمد المستيري او السفير الفرنسي بتونس). ومن بورقيبة ينتقل المؤلف الى ما جاء على لسان السيد الباهي الأدغم الوزير الاول الأسبق الذي اتخذ منه الحبيب بورقيبة عضدا أيمن، وبعد ان تمّ له ما أراد باستعماله في ازاحة أحمد بن صالح من خلال تشكيل اللجنة البرلمانية ثم المحكمة العليا فالمحاكمة نال نصيبا كبيرا من «النقد البورقيبي» سواء من خلال تقزيمه (وصفه بورقيبة في خطاب له بمجلس الامة ب «قنطار لحم») أو من خلال اتهامه بالتواطؤ مع بن صالح. وقد «استثمر» الدكتور عبيد خطب الباهي الأدغم على أحسن وجه لابراز تهافت الخطاب البورقيبي وتناقضاته، وبيان براءة بن صالح من التهم التي ألصقت به علاوة عن كشف الذين اصطفوا وراء الجوقة الرسمية لادانة بن صالح، ومن بينها «الجناح الليبرالي في الحزب الدستوري والاتحاد العام التونسي للشغل». «وقفة التأمل» التي أعلنها الباهي الادغم لم تكن أكثر من فرصة لاجهاض التعاضد والاجهاز عليه مع الاشارة الى ان الدكتور عبد الرحمان عبيد لم يتردد في ذكر الاشياء بأسمائها دون تورية وفي هذا الاطار تحدث عن «تنصيب السيد الحبيب عاشور العدوّ الالدّ لشخص أحمد بن صالح والذي لم يهضم قط خلافته لحشاد في قيادة المنظمة النقابية (صفحة 101) وأضاف الكاتب كان الحبيب عاشور كأحمد التليلي قبله من أشد العناصر القيادية مناهضة لسياسة الستينيات بالرغم من ان النظام يطبّق جوهر البرنامج الذي انبثق عن المؤتمر السادس للاتحاد 20 سبتمبر 1956 حتى ان الحبيب عاشور كان يدّعي ان ما تعرض له من الاضطهاد والسجن في قضية «التأمين» كان بسبب احمد بن صالح ولم يقتنع بذلك الا بعد ان تجرع محنا أشد منه أدرك ذلك عندما اصبح بن صالح مضطهدا وملاحقا في المنافي والسجون كما تأكد في لقاء الرجلين اخيرا في المهجر. ويمكن القول انه من اهم الوثائق التي نشرها المؤلف في الكتاب والتي يمكن اعتبارها اساسا لفهم فلسفة التعاضد من حيث النظرية والتطبيق من ناحية وللوقوف من ناحية اخرى على الملابسات والظروف الموضوعية التي جدّت خلالها احداث الستينيات محتوى الحوار التلفزيوني المباشر الذي جمع بين بن صالح والادغم في سبتمبر 1969 والرسالة التي وجهها أحمد بن صالح الى بورقيبة في ماي 1973 وذلك بعد هروبه من السجن او بعد تحرّره الذاتي كما يحلو القول للدكتور عبد الرحمان عبيد. سهام الدكتور النقدية لم تطل السلطة التنفيذية فقط فهو لم يدّخر جهدا لبيان تبعية مجلس الامة للمجاهد الاكبر وارتهانه الكامل له كما قدّم لنا بعض الصور من عجز وسائل الاعلام المكتوبة بوجه الخصوص على القيام بدورها التنويري واصطفائها وراء الترديد الببغائي لمقولات الخطاب الرسمي وقد كان للراحل الهادي العبيدي نصيب وافر من نقد المؤلف نظرا لانخراطه في هذا التيار... ذروة المسرحية أما الجزء الثاني من الكتاب فقد كان خاصا بمختلف اطوار المحاكمة من البداية (قلم التحقيق) الى النهاية (إصدارالحكم)... المؤلف ابتعد قليلا في الفصول الخمسة من الجزء الثاني للكتاب عن الاسلوب الجدالي والحجاجي الذي اعتمده في الجزء الاول بل عمد الى نقل اطوار التحقيق وشهادات الشهود كما هي فاسحا المجال امام القارئ للوقوف عند تهافت المسرحية التي تم اعدادها سلفا، خاصة انه (أي المؤلف) قد زوّد القارئ في الجزء الاول بخلفيات الانقلاب وجذوره ومدّه بخارطة تفصيلية عن أهم الفاعلين فيه. ويمكن وصف شهادات بعض المسؤولين ذروة المسرحية خاصة ان من بينهم من اتهمهم أحمد بن صالح. في الرسالة التي وجهها الى بورقيبة سنة 1973 بالاعداد لاغتياله (المقصود الطاهر بلخوجة بتحريض من الرئيس الحبيب بورقيبة). كما انّ النقل التفصيلي لشهادات المواطنين عمّا اصابهم من ضرّ ومن ضرر وما لحق بهم من أمراض (البعض فقد عقله حسب زعم المحاكمة المسرحية) أمر يحسب للكاتب نظرا لانه مدّنا بوثيقة تاريخية تعكس أساليب السلطة التنفيذية في تصفية الحسابات مع «أبنائها السابقين» ومع معارضيها. وبيّن المؤلف في ذلك الجزء كيف أنّ السلطتين التنفيذية والتشريعية عمدتا الى خرق الدستور اكثر من مرّة الاولى عندما حملت وزيرا (متعدّد الحقائب) المسؤولية عن السياسة الاقتصادية في حين أننا في نظام رئاسي يتحمل بمقتضاه رئيس الدولة كل السياسات، والثاني عندما أسست محكمة خصيصا لمحاكمة أحمد بن صالح بأثر رجعي والثالثة عندما «مسح الرئيس يديه في وزيره بتحميله مسؤولية تعميم التعاضد في حين ان الوثائق والحقائق التاريخية تشهد بعكس ذلك. وختم الدكتور عبد الرحمان عبيد كتابه ب «استنتاجات ومواقف» اكد فيها صحة الفرضيات التي وضعها في المقدمة.