قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    رابطة الهواة لكرة القدم (المستوى 1) (الجولة 7 إيابا) قصور الساف وبوشمة يواصلان الهروب    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في كتابه«الشرق والغرب والسلام العنيف طروح، وتنظيرات، وموازنات، وتجليات مرعبة » (الجزء الاول)
مقارنة بين الرئيسين السابق واللاحق للأستاذ الشاذلي القليبي د. عبد الرحمان عبيد
نشر في الشعب يوم 19 - 03 - 2011

في حوار ملفت للاستاذ الشاذلي القليبي (1) الوزير السابق للثقافة في حكومة بورقيبة ثم مدير ديوانه (2) فمرشحه للامانة العامة لجامعة الدول العربية.
أجرته معه السيدة »جينفياف مول« عربه الاستاذان عبد العزيز قاسم واحمد العايد وأصدرته مؤسسة بن عبد الله وذلك تحت عنوان »الشرق والغرب والسلام العنيف« وقد سبق ان قدمنا هذا الكتاب حوار ومتحاورين في مقال مطول صدر بجريدة »الشعب« المناضلة في حلقتين متواليتين وفي صفحتين بتاريخ 4 أوت 2004 و21 أوت 2004 وقد تركز جل هذا المقال على واقع الحياة الثقافية بتونس في وزارة الاستاذ القليبي واحدا من مجموعة فصول تناولت جل مضامين تلك المدونة نأمل في اصدارها مجتمعة اذا ما تيسر الحال...
ندرج منها هذا المقال اعلاه مع جملة من مقالات بديلة بكتابنا المحجوز منذ أكثر من عقدين تلك التي فات زمانها نسبيا واستوجب شيء منها بعض التّحيين فيما نرى وفي هذا المقال البديل سنحاول مناقشة رأى الاستاذ في المقارنة بين رئيسيه السابق واللاّحق شؤون الدولة على صعيد طرق وأساليب ادارة الدولة والتنمية الشاملة والعلاقة مع الاجوار.
لقد ركزت السيدة مول (في القسم الاخير من الفصل الاول على المقارنة بين الرئيس المؤسس للجمهورية التونسية ذات النظام الرئاسي الحبيب بورقيبة الزعيم المدافع عن دعائم الدولة الحديثة في اطار الامكانيات المتوفرة والمتمكن من الثقافتين العربية والاسلامية والفرنسي والغربية، وصاحب الذكاء المفرط والقدرة العجيبة على افحام مخاطبيه والنظرة البعيدة في تقصي العوائق كما يصفه الاستاذ وكأني به مصداقا لقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى إلى قول قوم أنت بالغيب عالمُ
وبين هذا العبقري وبين خلفه الجنرال الشجاع الذي تجرأ على انقاذ سلفه من نفسه حيث »طالت شيخوخته« كما وصفه الجنرال في بيان السابع من نوفمبر 1987 لما أصرّ عليه من الرئاسة مدى الحياة ذلك الرئيس الثاني الذي تجلت انجازاته فيما جاء في عرض الاستاذ ونعوت أساليبه ومناهجه القويمة في تصريف شؤون الدولة وترقية المجتمع مما شكل جملة من التباينات بين الرئيسين والعهدين والسياستين في تقدير الاستاذ.
1) في سيرورة التنمية:
وذلك انطلاقا من سيرورة التنمية الشاملة أو (المستديمة حسب مصطلح ذلك العهد السعيد) باعتبارها القسطاس المستقيم في تحديد الفوارق والمفارقات حيث يطرح مفهومه للتنمية ومواصفاتها كمايلي:
»إن انجع عمل ضد الاحراف في تونس يظل في تنمية شاملة تنبث انبثاثا حسنا في كل النسيج الاجتماعي (3) ويلح في ابراز تصوره لكنه التنمية وأبعاده بقوله »وعليّ هنا أن ألح على فكرة لا يعيرها مخططو التنمية دائما العناية الكافية ألا وهي التنمية كي توازي التحاما اجتماعيا قويا ينبغي ان يستند إلى واجب التضامن الذي يسمح بسد الفجوات وتدارك النقائص حتى يشعر كل واحد شعورا حقيقيا بالازدهار وبانه في الوقت نفسه يسهم في اعلاء شأن الوطن (كذا) (4) فهل يجوز ان نضع هذا المفهوم في خانة الماركسية؟
وإذا صح ذلك فلا مناص من التنويه بهذا التوجه إلى الفكر الاقتصادي والاجتماعي، لا جُرْم ان الاستاذ القليبي من افرازات الحركة العمالية ومن بين اعضاء لجة صياغة »البرنامج الاقتصادي العتيد«..
على أن المواطنة الحق إنما تكمن في تكافؤ الفرص بين الجميع من حيث تعادل الحظوظ في التعليم والصحة والسكن والتشغيل خاصة والمشاركة العملية في الخيار والقرار فهل كان ذلك هو مصداق قول الاستاذ في تلك الفقرة؟!
ولا يغفل الاستاذ عن التذكير بما دأبت عليه تونس منذ الاستقلال فيما عكفت عليه من النهوض بهذا التضامن الاجتماعي غير ان ما حدث في العهد الحالي انجاز مهمّ »فقد بعث الرئيس بن علي صندوقا يهدف بالتحديد الى اعانة الجهات المسماة بمناطق الظل المحرومة غالبا من الطرقات، وحتى من المسالك ومن الكهرباء وحتى الماء الصالح للشراب (5)...
ويعلق الاستاذ منوها بهذا الصندوق مبررا مكانته الانشائية في انقاذ المحرومين من أبناء الوطن في الداخل وكذا الشأن في سائر الاوطان الفقيرة لو سار حكامها على هذا الدرب فيقول:
»إن إنشاء صندوق تضامن يطلق عليه »صندوق 26/26« (6) وتموله تخصيصات من ميزانية الدولة وهبات من الخواص يمثل اجراء لا أتردد في نعته بالسياسي (7) »ثم يضيف مؤكدا في شيء من المجازفة المذهلة« وهذا الاحداث يحقق بالفعل ما تدعو إليه أنظمة كثيرة بالأقوال وبالنصوص الرسمية دون القدرة على إدراجه في الواقع اليومي: أي تحسين العدالة الاجتماعية باستمرار« (8).
فنحن نتساءل: أولا ترى ما قد يكون رأي الاستاذ فيما أكده من مفعول ذلك الصندوق »الحدث« في انقاذ الجياع والمسحوقين بمناطق الوسط والجنوب والشمال الغربي، إذا ما قارن بين الحكم الغريب وبين الواقع الذي تفجرت عنه ثورة 14 جانفي المعجزة وما عكسته القنوات التلفزية ووسائل الاعلام عامة عن ذلك الجحيم الملتهب بتلك الجهات التي غشها صندوق 26 26 للبساطة..
وثانيا لا ندري ماذا كان الاستاذ على بينة من حقيقة ميزانية ذلك الصندوق دخلا وخرفا... اللهم الا ما كشفه الحارس الخاص للرئيس المخلوع السيد عبد الرحمان صومر عبر احدى القنوات التلفزية ليلة الثلاثاء 7 فيفري 2011 بأن سيدة تونس الاولى (وما أسعد سيداتنا بهذا اللقب) قد اشترطت عند بعث ذلك الصندوق ان تصيب لنفسها كامل النصف من دخل ذلك الصندوقوكان لها ذلك (حسب روايته) وثالثا: لا ندري لماذا أهمل الاستاذ فيما تحدث عنه من منظومة »شبكة التحولات الاجتماعية والاقتصادية خلال العشريات الماضية حيث لم يتعرض الى منظوة التخطيط العلمي الذي تجلت معالمه ابتداء من الخطة التنموية (1962 1971) المنبثقة عن البرنامج الاقتصادي وكان من بين اعضاء صياغه كما تقدم ولكن أي بعد للتضامن الاجتماعي والوحدة الوطنيّة في نظر الاستاذ؟ أتراه المفهوم التقدمي (الديمقراطية) حتى تقتضي حتما ضروة شعور حقيقي لكل فرد بالازدهار والمواطن الحق وهو ما يتماشى إلى حد كبير من توازن القطاعات الثلاثة العام والخاص والتعاضدي الذي يشمل العمال والحرفيين وصغار الفلاحين والتجار الصغار وأهل الصناعات التقليدية إلخ... ذلك التحول الجذري للتضامن الموضوعي بين كل فئات المجتمع أي ذلك الذي يجمع بين كل المساهمين في الوحدة الانتاجية في مختلف أصنافها في مستوى الانتاج إما بقوة العمل مباشرة أو تعويضا عن المساهم مع مساواة في الصوت والآخر بين العامل المساهم والعامل المعوض إنما تكون المقادر في الربح حسب الاسهم المرصودة لكن أصوات المتعاضدين عند الخيار والقرار تكون متساوية لا فرق بين الصغير والكبير وبذلك لا سيطرة للكبير على الصغير وامتصاص قوّة عمله ويكون بذلك مبدأ التضامن قائما التوازن في الشراكة المصلحية الموضوعية ولا يكون للكبير فضل على الصغير (خادم ومخدوم...)
وكان الزعيم بورقيبة قد تناول جانبا كبيرا من هذا التوجه في أكثر من خطاب وبالخصوص في المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للتعاضد فضلا عن تحاليل الأستاذ أحمد بن صالح التي تكاد تكون يومية. وكانت وزارة الثقافة والاعلام قد أعدمت خطب وبيانات كل منهما ابتداء من نصوص أحمد بن صالح في غضون محاكمته وبورقيبةعند عزله من الحكم (9).
يبدو أن الأستاذ القليبي قد تناول ذلك المفهوم من منظور عملي أو ميداني يتبلور مع عهد التغيير لكن أي تغيير هو؟ كما تقدم في نعت صندوق (26-26) وفي هذا السياق لا يغفل الأستاذ عن بيان المقومات والملكات التي توفق رئيس الدولة السابق بفضلها إلى تغيير ما كان قبل أخذه بناصية الحكم حين يقول:
»إن النفع القوي الذي عرف رئيس الدولة منذ 1987 كيف يرسخه في الأنشطة الاقتصادية مع ما أتى به من تنقية المناخ الاجتماعي أعطى البلد هذا الاستقرار الذي يسهم في تلاحمه وطبعا في سمته المميزة (10)«
ترى كيف كانت تنقية المناخ الاجتماعي وما يكون ذلك الاستقرار المريح؟!
2) في قضية المناخ والاستقرار السائد في البلاد:
إن هذا الاستنتاج المحض لترسيخ الاستقرار والتنفيذ الذي يجسم السمة المميزة للبلاد التونسية يدعونا إلى مزيد التدقيق الذي يحول دون التلبيس أو المغالطة. فأي واقع للمناخ الاجتماعي يتحدث الأستاذ عن وجوده في صميم المجتمع؟
فماذا أضاف الرئيس المخلوع؟ إلى تركة سلفه فهل أعلن العفو التشريعي العام وأفرغ السجون من أهل الرأي، وأطلق حرية التعبير والتفكير، والتنظيم... وألقى القوانين التعسفية كالصحافة والأحزاب والمنظمات وصادر الكتب والاعمال الثقافية والتفّ على الدستور وواجه البطالة وفرّط في القطاع العام.
هل بلغ إلى مسامع الأستاذ القليبي ما كان يعاني الشعب من وبلات عائلة الرئيس المخلوع وهل بلغ إلى علمه ما كان يتسرب من الأخبار والمعلومات نصيب الرئيس (الجليل) من صفقات المؤسسات الوطنية التي تم التفريط فيها للغيلان من الخواص عندنا ومن إليهم من خارج الوطن فضلا عن سيرة سيادته الذاتية التي تخصه...طبعا ولو أن للقدوة معنى.
فهناك مواقع بالشبكات العنكبوتية، وهناك صحف أجنبية، وسفراء وكتب صدرت عن »الرئيس الصديق« وأسرته الماجدة بالوطن الصديق لا أظن أن الأستاذ لم يقف على شيء من أصدائها. فأي وجه للمقارنة بين الرئيسين في هذا المجال يا أستاذنا الفاضل؟ ماذا تقول اليوم عما أثبت العالم ما لوجود ذلك الرئيس من أموال النهب فضلا عن منهوب أسرته الكريمة وما القول فيما تم ضبطه بقصوره مما لا عدّ له، ثم ماذا تعني من الاستقرار أتراه الاستقرار الحي الذي يقوم على علاقات جدلية خلافة بين القطاعات الثلاثة في نسيج المجتمع ليس للسلطة السياسية فيها إلا إقرار التوازن بين طبقات المجتمع والتنسيق المحكم لمسيرة التنمية الشاملة واجابية التعاون الدولي وتنوع المبادلات مع الدول الشقيقة والصديقة.
بيد ان المعيش في سياسة الرئيس المخلوع فقد انطلقت (في تقديرنا على ابراز وجه »السوق« حسب »المثل الشعبي« حيث ركب كل النضالات قوى التحرر والتحرير السابقة والتي قوامها بين الستينات والسبعينات والثمانينات أكثر عن مائتي محاكمة سياسية تلك التي صاغ منها الهادي البكوش ذلك البيان الذي غالط الكثير من القوى الوطنية والتقدمية مع بعض استعمالات ووعود ومنع الصحف وبعض الحركات والأحزاب العملية والمساعدات وسن ميثاق وطنيّ لم يسلم من حبائله إلاّ القليل كحركة الوحدة الشعبية وكانت الحقيقة أولى الانتخابات في عهده حيث بان الصبح لذي العينين كما تجلت خدعة الاستقبالات وإذ تواصلت القطيعة حاسمة ومنها الامتناع عن المشاركة في ذلك الميثاق من جانب الحركة فضلا عن الانتخابات وكان كما صار في مصادرة كتابنا في التوجه الديمقراطي والمصالحة الوطنية على أن هذا الرجل لم يتورع عن الغدر لتنظيمات وطنية وشريفة كانت قبلت بالمشاركة، في الانتخابات التي أوهم بالالتزام بصيانة عذريتها.
وكرر غير مرة باحترام الحياد والشفافية وفتح الباب على مصراعيه لحرية تلك التنظيمات في ممارسة حملاتهم، ومراقبة عمليات التصويت بصفة مباشرة وفي المقابل التصويت له لرئاسة الدولة وكان له ذلك وعند الفرز نال منهم شرعية الوجود المغطى للانقلاب على رئيسه ومن هذه التنظيمات للأسف حركة الديمقراطين الاشتراكيين وحركة النهضة وبتلك الشرعية المزعومة والمفترضة (وطنيا وعالميا) آن له أن يحيط بهويات كل المصوتين الخطيرين من المعارضين خبيرا متمرّسًا في المخابرات (حسب علمي)) كما آن له أن يبدي ويعيد في التشريعات والقوانين وأن يمسخها مسخا يحيلها على مقاسه وعلى وجه ينافس سلفه بما في ذلك نص الدستور وفي هذه الحبائل والقيود التي كبل بها الأحرار والنزهاء من أبناء الشعب إلى حد الفسق في أشرافهم وأطرافهم من قبل عائلته المجيدة... وكان الاستقرار القاتل الذي أشاد به أستاذنا القليبي...
وإن على هاماتنا على امتداد أكثر من عقدين فأين بورقيبة على مظالمه وتجاوزاته من هذا الخلف الوبيل؟ وإن كان في الأصل من رموز بورقيبة نفسه.
أجل لقد كابدنا مع بورقيبة اواخر الخمسينات حتى اواخر الثمانينات فقد جرت أكثر من مائتي محاكمة سياسية لكن كانت هناك تنظيمات قوية وجامعة بين حركات شعبية عمالية وطالبية وحتى تلمذية يمينية وتقدمية قومية وماركسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تحرك من الداخل وفي الخارج، تضرب وتضطهد وتحاكم وتسجن وتنفي، ولكنها تفعل وتسجل الانتصارات نذكر منها جماعة »آفاق« والوحدة الشعبية والعامل التونسي والبعث العربي الاشتراكي والشغيلة وغير ذلك كثير إضافة إلى منظمات وطنية وعنيدة مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد العام لطلبة تونس مع حلقات نقاش بالمجامع والجوامع، وكذا نوادي السينما والسينمائين الهواة والجمعيات المسرحية الخ... دون أن ننسى مواقف بعض المناضلين الكبار مثل المرحوم الطيّب المهيري، وسليمان بن سليمان وأحمد بن صالح وأحمد المستيري وغيرهم.
فيما استطاع الرئيس المخلوع تبعا لوعوده أن يستقطب عددا من المحسوبين على المعارضة من تشكيلات تقدمية وديمقراطية وحركات وأحزاب وجمعيات ومنظمات في ضمنهم قياديون بارزون (11) أسند إليهم مناصب عليا وزراء وسفراء وولاة ومديرون كبار والأغلبية المطلقة منهم واصلت رسالتها في خدمة ذلك النظام إلا من تم الاستغناء عنه.
والواضح في نظرنا أن الانتهازية ليست حكرا على كوادر الحزب الدستوري ولا سيما بالنسبة إلى بعض المرتزقة كبعض الموالين من الأحزاب والمنظمات كما يرى البعض.
أليس هناك من مسوّغ مقنع أوصل بعضهم إلى ذلك المصير لحسن النية أو ضغوط خفية؟ أجل من الجائز ألا نغض الطرف عن مؤثرات التحولات العالمية في هاتيك الفترة وبالخصوص في مسار القيادات الماركسية والقومية بانهيار الاتحاد السوفياتي وتشظي العالم الشيوعي وكذا التيارات البعثية والناصرية بعد تدمير العراق وتمكن الولايات المتحدة من الاستحواذعلى النفط العربي والإحاطة المطلقة بأمن الطاعون الصهيوني مع كارثة الصلح مع اسرائيل وكانت تلك المعاقل مرجعا حصينا لأكثر من نصف شعوب العالم وفي ضمنها أحزاب وحركات قائمة في بلادنا قد مسّ جلها بعض الوهن أفاد منه نظام الرئيس المخلوع أيّما إفادة ولا سيما في الأوساط الجامعية مدرسا ودارسا وفي الهياكل النقابية والثقافية وقد جرى للأسف عدد من رموز تلك التيارات إلى أحضان صاحب التغيير حيث خلعوا عليه وسام الشرعية.
من الميليشيات، وعناصر موتورة مسحوقة من هنا وهناك تيسّر توظيفها في مآربه المشبوهة ضد الشعب إلى حد الترهيب والترويع مما حمل الكثيرين على الانكفاء على ذواتهم والزهد في مشاغل وطنهم وهويتهم وقوميتهم وذاكرتهم لعلها أقرب ما تكون إلى عملية استلاب أو انفصام ذاتي ضرورة كابوس البطالة والفقر المدقع، والأمراض المزمنة كالسكري وضغط الدم والسرطان أحيانا »لا سلوى ولا رفاهة عدا كرة القدم والتلفاز المحدود ولا تسألنّ عن أصحاب الشهادات العليا فضلا عن معاليم الدروس الخصوصية الناهبة.
فهل هذا الواقع هو مصداق الاستقرار الذي أفرزته منظومة التنمية التي أدارها ذلك العبقري في تقييم الأستاذ القليبي.
3) معالم الازدهار والمنهجية الخلاقة:
في تساؤل للسيدة »مول« عما استمعت إليه من عرض الأستاذ حول سيرورة التنمية المستديمة السريعة للازدهار في عهد الرئيس المخلوع بقول الأستاذ القليبي:
»هناك خطة أساسية يجب ابرازها، إن بورقيبة مع انه رجل عظيم بالتأكيد كان قليل الاشتغال بالمتابعة الشخصية كانت السياسة ميدانه الخاص، وكان يترك لوزرائه بطيبة خاطر والسهر على تسيير أعمال التنمية التي كان يحاط بها علما من بعيد إلى أبعد بينما الاقتصاد في أيامنا هو صميم النشاط الحكومي(12).
حقا إننا لا ندري إلى ما يرمي الأستاذ في هذه الفقرة هل هو التبرير لبورقيبة الذي يدعي أن بن صالح غلطة وأخفى عنه الحقائق (حيث لم يرم إلى تدميره بهذه التهمة) أم نراه ينفي الثقة عن زملائه في حين أنه لا وجود لرئيس دولة يختص في كل ميادين الدولة بمن في ذلك »صاحب التغيير« بأي علاقة لديه بين الجيش والبوليس...؟ وعالم الاقتصاد ومقومات التنمية؟
ثم يضيف في مقابلة بين الرئيسين في هذا الصدد قائلا: »وينبغي الاعتراف بان بن علي قد حقق عملا باهرا حقا إذ نهض في بضع سنوات باقتصاد كان يجتاز مناصب ومردها هذا النجاح هو عوامل عدة أولها أسلوب العمل فمنذ البداية توخى الرئيس الجديد طريقة عصرية في تسيير شؤون الدولة وتتمثل تلك الطريقة حسب تقدير الأستاذ في كونه قد عمل على أن تظل الملفات نائمة في الوزارات(13) ولا ندري أين وجود الوزير الأول، ولعل الأستاذ لا يعلم أهم الملفات التي حرص ذلك الرجل على مباشرتها بنفسه إنما هي تلك التي تعلقت بصفقات التفريط في مؤسسات القطاع العام والتي قد تكون له في الكثير منها خصم سمين كما ورد في اعلام موقع »فايس بوك« ولا سيما في الموائد المستديرة للنقاش حول ملف الفساد في حين يؤكد الأستاذ »إن أي قرار ذي أهمية وطنية لم يتخذ خارج هيئة من المسؤولين والخبراء وطبق الشروط نفسها ثم إدخال التعديلات. وهكذا كان تقويم الاعمال المباشرة لم يترك الدوائر المعنية وحدها(14).
وفي ضوء تلك الطريقة المنهجية يبدي الأستاذ رأيه في سياسة »الستينات والسبعينات« فيقول: »كان بإمكان هذه الطريقة لو طبقت خلال الستينات والسبعينات أن تجنب تونس بعض خيبات الامل التي أثرت سلبا في هيبة الدولة والتنمية الاقتصادية أو العلاقات مع الجيران (15)«.
فعلى فرض التوسم في اجتهادات الرئيس الجديد وتقدير خياراته في ابتكار المناهج واستنباط الأساليب في مباشرة مهام الدولة، وحمل أعبائها الثقيلة نرى في تقويم الأستاذ ومقارنته بين السابق واللاحق منهما ما يدعو إلى التدقيق والتوضيح حيث يتراءى لنا في تلك الموازنة شيء غير قليل من المجازفة والمزايدة فماذا يدعي ذلك الرئيس الحازم من وراء »إشرافه المباشر بنفسه على كل الملفات والدوائر المعنية حتى لا تنام بالوزارات سواء في الماضي أو الحاضر ألا تراه محل إضمار مسبق تجاه كفاءة ونزاهة مساعديه والارتياب في شعورهم بالمسؤولية، ولا سيما الوزراء وكتاب الدولة ومن إليهم مثل الرؤساء والمديرين العامين ولا ندري ما قد يكون موقع وزيره الاول..
واعتقدنا أن ثقة الرئيس الراحل الزعيم بورقيبة في وزرائه إنما تنم عن قيمة ثابتة في شخصيته حيث لم يضمر في الآخرين ما يضمره خلفه (ان صح ذلك الفهم) اللهم إلا أن يكون منه ضربا من الكيد ضد من يروم الإطاحة به من كبار المسؤولين ممن يتوجس منهم خيفة مثل أحمد بن صالح وأحمد المستيري، والباهي الأدغم ومحمد مزالي..
وذلك أسوأ ما في شخصية بورقيبة وبَعْدَ نوعية حكمهِ الذي كتبنا فيها من المقالات والكتب وكتب غيرنا وأسالوا من الحبر ما فاضت به خلال هجر دون ان تنال طبعا من عبقرية، ومجد كفاحه، ونظافة كفه بحيث لا وجه للمقارنة بين السابق واللاحق في هذا المضمار وعلى ذلك قد لا يجوز في نظرنا ما تراءى من التعريض بالزعيم فيما حسبه الأستاذ القليبي »من الخيبات التي أثرت سلبيا في هيبة الدولة والتنمية الاقتصادية، او العلاقات مع الجيران (16)« فماذا يعني الأستاذ بالخيبات التي ذكر أبعادها؟
4) نوعية الحكم البورقيبي:
لكن ليس معنى ذلك أن حكم الزعيم كان مثاليا منذ البداية حيث انه (في تقديرنا) لا يقل دكتاتورية عن خلفه إن كان يتجاهل وجود السلطتين التشريعية والقضائية تجاهلا يكاد يكون مطلقا باستثناء المجلس التأسيسي الذي شابته مظاهر التعددية ولا سيما في مستوى المنظمات المهنية والعمالية إلى حدود الدورة الاولى، نرى السلطة القضائية كانت بيد رئيس الدولة عن طريق الوكيل العام للجمهورية ووزير العدل ولم تكن لكل الأطراف مقرّة لتلك النوعية من قبل الرئيس منها الحزب الشيوعي التونسي والحزب الدستوري القديم ورجال الدين (خاصة المتشددون منهم) كثير من المناضلين الدستوريين ولا سيما من ذوي المجد التأسيسي للحزب من اليمين واليسار مثل سليمان بن سليمان إلى يوسف الرويسي وعبد الرحمان خليف.
وقد واجه حكمه مقاومة عنيفة من أولئك وهؤلاء نذكر منها قمع الحزب الشيوعي وحله ومناوءة مجلة الأحوال الشخصية وإفطار رمضان، وانتفاضة »القيروان بزعامة خليف ومؤامرة 22 ديسمبر 1962 آخر حرب بنزرت. لكن مكانة حكم الزعيم وشرعية وجوده لم تتأتى فقط عن قيادته الذكية والعارية لحركة التحرير الوطني وإنما كذلك أيضا عن مصداقيته الوطنية والجماهيرية ثم توجهه الحيادي سواء على المستوى الفكري والحضاري أو على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فبورقيبة لم يشذ عن اعلام الثورات التحريرية التقدمية اقتصاديا واجتماعيا) مثل جمال عبد الناصر وهواري بومدين وقيادة البعث الحزبي الاشتراكي وغيرهم كثير من العالم الثالث، بل ناهض النظام العسكري بشدة وعمق، فقد أنصف الأستاذ بورقيبة في تلك الجوانب ونحن ممن يعتقد أن سامي بورقيبة مع فلسفة الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة كل من حشاد وبن صالح في إطار »البرنامج الاقتصادي والاجتماعي« الذي عاد إليه بعد مناوءته العنيفة له(17) كانت صادقة بل ذات قناعة عميقة وحماس فياض (❊) وأن انقلابه على تلك السياسة كان غريبا رهيبا وقد أحس به هو ذاته أكثر في تقديرنا مما أحس به غيره وذلك ما أكده الاستاذ الشاذلي القليبي الذي عاش مدة انهياره منذ سبتمبر 1969 بوصفه مدير ديوانه والملازم له: يقول الأستاذ عن هذه المأساة الدرامية والبشعة ما يلي: »ولما اقتنع الرئيس بضرورة التغيير قام بذلك كعادته بأسلوب درامي إلى حد اتهام بن صالح لا بخيبة تجربة اقتصادية فحسب بل أيضا بمؤامرة سياسية قد يكون دبرها بصمت في الظل لبلوغ قمة السلطة وفي الحقيقة ليس أبعد من احمد بن صالح من ان يعقد النية على مثل هذا المرام (18)«.
ويضيف الأستاذ مؤكدا يقين الرئيس في براءة تلك التهمة قائلا: »يبدو أن هذا القرار لم يكن لرئيس الدولة أن يتخذه بسهولة وهو الذي لا ينسى دعمه الدائم لهذه السياسة وهو الذي كان أيضا في قرارة نفسه على يقين بأن أحمد بن صالح كان له وفيا على الدوام (19)«.
ثم لا يغفل الأستاذ عن ذكر ما أحس به الرئيس من الجرم الأليم وانعكاسه على شخصه وحياته فيقول: »ذلك هو النزاع الذي أخطر بورقيبة لمجابهته ولمعاناته سنين طويلة وكان أن انجر عن ذلك انهيار عصبي لم يتغلب عليه أبدا (20)«.
وهكذا تلاشى شيئا فشيئا وأضحى الوزير الأول هو المباشر الفعلي لإدارة شؤون الدولة عند الضرورة وحسب الحالة الصحية للرئيس، وكان السيد الهادي نويرة في مستوى المسؤولية الضخمة التي أنيطت بعهدته في تصور الكثيرين حتى في تقبل اعتماد السفراء ورئاسة مجلس الوزراء أحيانا ومع ذلك أصر الزعيم على البقاء في الحكم وحتى يغلق باب الطمع في خلافته فرض على الشعب انتخابه مدى الحياة..
وهكذا أيضا توالت الاهتزازات بتواتر انهيار الرئيس واضطراب قراراته ومواقفه نتيجة تأثيرات زبانية القصر ولا سيما في أوائل الثمانينات سواء من الداخل أو من الخارج.
وفي اعتقادنا أن الأستاذ قد أصاب فيما ارتآه »من خيبة للأمل التي أثرت سلبيا في هيبة الدولة والتنمية الاقتصادية وفي العلاقات مع الجيران (21)« لكن ليس معنى ذلك أن الرئيس اللاحق قد أنفذ هيبة الدولة وحقق ما وعد به عند انتصابه وإنما القلم أعجز من الاتيان على مساوئه من مطلق النواحي، قد يكفي ما أثبتته التحقيقات الأولية من رجالات الثورة المعجزة من مخازي عفونته الشخصية والعائلية والبطانة المحيطة به ومن خيانات للذمة والانسانية.
ونحن ممن يعتقد أن المقارنة بين الرئيسين ضربا من الإهانة للزعيم. ومن الغريب أن يدرج الأستاذ القليبي من تلك الموازنة بالخصوص نخبة التنمية الاقتصادية وكأنما هو اشعار بفارق إيجابي لفائدة »صاحب التغيير« في هذا المحور الحيوي والحساس الذي سبق أن تناولنا جوانب كثيرة من جوهره وخلفياته وأبعاده وما تراءى لنا من موقف الأستاذ منه سواء على مستوى المضمون والتخطيط، او الممارسة والتطبيق العملي، وبالتالي في مستوى النتائج.
إنّ الستينات شكلت منعرجا تاريخيا في سيرورة الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وكان تصور الأستاذ لها وموقفه منها واضحا فيما عبر عنه في سياقات متعددة في هذا الحوار بالذات تناولناه في مقطعين مهمّين(22) وضمن مقالتين كما سنرى.
وكان »صاحب التغيير« قد هاجم تلك السياسة بعبارات جد واضحة في حوار أجراه معه صاحب مجلة عربية(23) ردا على تساؤل المحاور: »ماذا كان في الحسبان استرجاع الأستاذ أحمد بن صالح لحقوقه السياسية.
وعلى نقيض سياسة هذه العشرية برزت سياسة »السبعينات« التي أدارها المرحوم الهادي نويرة الوزير الجديد والتي قامت على نسخ سابقتها توجها ومضمونا وأسلوبا وأسماء ومسميات(24) وهذا ذكر بتغيير التعاضد وأحمد بن صالح كالحبل في بيت المشنوق وبديهي أن يتراجع الاقتصاد الوطني الموجه والتنمية الشاملة المستقلة ويحل محله اقتصاد السوق »حسب اقفاص البنك الدولي الامبريالي وتتمثل في حتمية تحرير التوريد والتصدير والأسعار، والضغط على الانتداب من قبل القطاع العام، وحذف صندوق التعويض بعنوان »ترشيد الأسعار وتركيز الصناعات التصديرية« القائمة على استغلال اليد العاملة الرخيصة .
وبعثت تبعا لذلك الصناعات التحويلية في الانتاجات الفلاحية (البيوت المكيفة لانتاج الخضر والغلال واللحوم والألبان، والدواجن والبيض...إلخ) والحيوانية وكل المواد التصنيعية أو التحويلية موردة من المصانع الغربية وهكذا أصبح الاقتصاد التونسي ذيلا محكما للاقتصاد العالمي.
ونتج عن ذلك تفتيت الطبقة الوسطى في انحدار إلى محاشر »البروليتاريا« حسب التعبير الماركسي، فيما اكتسحت الطبقة المحظوظة ربوع الساحة في أوساعها الزراعية (التي حطمت كيانها) والتجارية الصناعية حيث وهنت القدرة الشرائية، وطغت البطالة وتلاصقت قوافل الجياع في اتجاه ليبيا والخليج والغرب ولا سيما فيالق السماسرة والوسطاء وانطلقت الصراعات والنضالات على أشدّها في صفوف التلاميذ أوّلا ثم التلاميذ والطلبة معا ثم التلاميذ والطلبة والعمال وكانت ذروة ذلك الصّراع 26 جانفي 1978التي واجهها الرئيس الجديد فأحداث قفصة جانفي 1980، ومنها إلى ثورة الخبز 1984 بصرف النظر عن تواتر الحراك النضالي لدى تلك القوى المتكاملة مع الحركات والأحزاب السياسية والقوى العمالية على وجه الخصوص.
وكان ميلاد رجل مجهول الهوية على الصعيد المدرسي والجامعي والنقابي والثقافي عسكري ينفذ من الثكنة، يرفع هراوته لحماية والده بورقيبة من ذلك الغليان الثوري المتفاقم فيضعه على رأس إدارة الأمن الوطني التي تضمّ »الفصائل أمن الدول (DST)« وارتقى إلى وزارة الداخلية ثم الدفاع الوطني، والوزارة الاولى، وكان مصداق قول المتنبي في سيف الدولة:
ومن يجعل الضرغام بازا لصيده تصيّده الضّرغام فيما تصيدا
وعلى ذلك فإن بورقيبة بما عرضنا من مآسيه انطلاقا من بداية انحداره وانهياره الذي شرحه الأستاذ القليبي حتّى علق لقاحه بمخاض ذلك المولود الغريب ولئن كنا لا نستبعد بعض الصحة في رواية بلخوجة الذي نراه للميْن والبطلان صنوا وكذا ماجاء في حديث حارس الرئيس المخلوع من تفشي البهتان والهامش من معلومات عن مخدومه عبر المهمات التي أحاطها بعهدته بعديد الأقطار العربية والاسلامية والأجنبية في تلك المخابرات ومنها ما يشابه رواية بلخوجة أننا لا نستبعد ما قيل عن خيانة ذلك الرجل وقد كشفت هذه الثورة ماهو أفظع بكثير مما قيل عن عمالته ولكننا نتساءل هل يجوز أن نصدق بأن المضانّ التي غش اها الأستاذ مهامه الدقيقة والصميمة توجز إعلام ومدير ديوان رئيس الدولة لأمد طويل ثم أمين عام لجامعة الدول العربية لأكثر من دورة ألا يكون على علم بخلفيات تلك الاحداث وأبعادها ليقبل بالنزول إلى تلك المقارنة العجيبة حيث ينسب إليه من العبقرية والنجاح ما لم يتوفر لغيره من الأعلام التاريخيين عبر هذا الأمد الطويل، بعد الاستقلال وتأكيدا لعرضنا من مظاهر الغرابة (فيما قدرنا) من التفسيرات والموازانات والأحكام أو الترجيحات لحساب الرئيس اللاحق على السّابق غالبا نورد هذه الفقرة كاملة فيما حسبه الأستاذ عامل نجاج سياسة المخلوع بقول: »وهناك عامل آخر لهذا النجاح هو الحرص على ربط الاقتصادي بالاجتماعي وإني لأرى ذلك الدلالة الحقيقة للسماع والاغتراب القائمة مع المنظمات الاجتماعية المهتنة إن السلطة تباشر الحوار مع هذه المنظمات وتشجع على التشاور بين الأطراف الاجتماعية، لذلك تتمكن من الحصول على المناخ الاجتماعية التي تكاد تكون تامة في مجالات الصناعة والفلاحة والوظيفة العمومية. لهذا العامل يرجع الازدهار الاقتصادي الذي تشهده تونس منذ التسعينات إلا أن الرئيس بن علي يتصف بالجدة في الميادين السياسية والاجتماعية، وهو عمل عموما مكلل بالنجاح«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.