ما هي قراءة المنتج الفلاحي لظاهرة الغلاء الفاحش لأسعار المنتجات في مستوى التفصيل وللطرق المعتمدة في الضغط على الأسعار من قبل وزارة التجارة؟ وإلى أيّ حد يتحمل المنتج مسؤولية انفلات الأسعار؟ الفلاح البشير المستيري ( زراعات كبرى وإنتاج حيواني وعضو بالنقابة التونسية للفلاحين) بادر إلى طرح وجهة نظره في الموضوع من خلال اتصاله ب «الصباح» وتقديم موقفه مما ألم بقفة المواطن من عجز حال دون صمودها أمام سرعة تقلبات الأسعار ومن تغييب صوت المنتج من كل ما يسجل من نقاش وحوار حول الملف. وحسب الطرح المقدم لم يكن الارتفاع الحاصل في مستوى أسعار المواد الفلاحية في معزل عن المناخ الاقتصادي العام في مختلف القطاعات جراء تضخم الأسعار وهو ما كان له تأثير مباشر على كلفة الإنتاج. غير أنه رغم التأثير المسجل فقد أفلتت المواد الأساسية المؤطرة على مستوى أسعار التفصيل من قبضة انفلات الأسعار وإن كان المنتج تحمل تداعيات التضخم على نطاق كلفة الإنتاج التي تصاعدت بشكل مهول على غرار الحليب والحبوب والطماطم وغيرها. وإلى جانب عامل التضخم زادت العوامل المناخية في انتفاخ الأسعار. وتوقف المتحدث عند موضوع اللحوم الحمراء التي خلافا للمواد المؤطرة لا تخضع أسعارها للتسعير مبينا أنّه بقطع النظر عما تواجهه كلفة الإنتاج من ارتفاع متصاعد فإنّ غياب التنظيم على مستوى المنظومة ككل يمثل أبرز عامل في وتيرة ارتفاع أسعار البيع للعموم. ولئن لم ينكر استفادة المنتج من هذا الارتفاع فقد قلّل من نسبته مقارنة بالشطط الذي بلغه في مستوى سعر التفصيل. وأقرّ المستيري بأن صوت المنتج ليس فاعلا أو مسموعا في تنظيم المنظومة وإعادة هيكلتها. وفي سياق متصل بالإجراءات المعتمدة في مقاومة حمى الأسعار شجب المتحدث فرض مراقبة احترام التخفيضات المقرة من خلال مرافقة أعوان من الجيش والقوة العامة فرق المراقبة الاقتصادية لما في هذه الصورة من دلالات سلبية تستند إلى التدخل بالقوة في فرض التخفيض من وجهة نظره انتصارا للمستهلك والحال أنه عند انهيار الأسعار في مستوى الإنتاج لا أحد يهتم أو يكترث بما في ذلك الدولة مستغربا التعاطي بمثل هذه الآليات في نظام سوق حر يتم فيه التدخل عند ارتفاع الأسعار ولا يحرك أحد ساكنا عندما ينخفض السعر وينهار عند المنتج. محذرا من خطر اللجوء إلى آلية التسعير لتداعياتها السلبية على نسق الإنتاج لما تخلفه من عزوف من الفلاحين عن مواصلة الإنتاج في المواد المسعرة وتحويل وجهتهم نحو «أقلام» أخرى هروبا من قيد أسعارها.
ضبابية.. فوضى.. وضحية
يتفق الجميع بما في ذلك الجهة المكلفة بالإنتاج على ضرورة إصلاح مسالك الترويج وإعادة تأهيلها لما يسودها حاليا من ضبابية وفوضى في مختلف حلقاتها يدفع ثمنها الأطراف التي تعمل وفقا للضوابط ويذهب ضحيتها المنتج والمستهلك. وحول مدى نجاعة حل اللجوء إلى التوريد وقدرته على تعديل السوق بشكل منتظم ركّز البشير المستيري في تدخله على قطاع اللحوم الحمراء ملاحظا أن فتح الباب أمام الخواص لتوريد المبرد لفائدة السوق الداخلية يطرح أكثر من سؤال حول مدى الآليات التي ستعتمد في مستوى الفصل بين عرض اللحوم الموردة والمحلية وتجنب الخلط عند البيع. علاوة على أن عددا من المربين استثمروا أموالهم في تربية العجول الموردة للتسمين وبتنفيذ برنامج التوريد المبرد دون الحديث عن المجمد ستكون تداعياته وخيمة على المنتجين. ولكن أليس من حق الدولة التدخل لتعديل السوق والسيطرة على أسعار اللحوم الملتهبة حماية للمستهلك؟ يقول محدثنا «الإشكال القائم لا يتعلق بنقص في الإنتاج وإنما بارتفاع سعر الكلفة والإقبال المتزايد من المستهلك على اللحوم البيضاء وهو ما أثر على القصابين الذين تضرروا من تقلص الإقبال والحال أن أمامهم مصاريف قارة لا بد من تسديدها فكان اللجوء إلى اعتماد الأسعار المتداولة..» ورغم تعقد الوضعية فإن الحل في نظر محدثنا لا يقتضي المعالجة بالتوريد بل بحلول وتصورات واضحة وجذرية وهو ما لم يلمسه لدى المسؤولين ولم يلمس له إشارات مطمئنة. حيث كان ينتظر في هذه المرحلة الانتقالية تشخيصا معمقا للمشاكل والمشاغل حسب القطاعات وبتأطير صغار الفلاحين وتأهيلهم لاكتساب قدرة تنافسية تمكن منتوجهم من الصمود أمام الهزات لكن لم يحدث ذلك.
لا للوصاية على الفلاحين
الإشارة المطئنة كان يتوقع محدثنا صدورها عبر رفع الإدارة يدها عن كل الهياكل المهنية والأمر ليس بالجديد بل مستفحل منذ النظام السابق الذي أحكم وصايته وقبضته على مختلف الهياكل المهنية الفلاحية من منظمة الفلاحين والمجامع المهنية والتعاضديات حتى تحولت هيمنة الإدارة على مثل هذه الهياكل وتوظيفها سياسيا إلى التعامل مع الفلاح كزبون وهذه العقلية تبرز بشكل جلي حسب المستيري في اتحاد الفلاحين والصيد البحري الذي دأب التعامل خلال العهد البائد مع منخرطيه بطريقة المساومة التي تجعل من بطاقة انخراطه وسيلة للتمتع بالمنافع أو الخدمات الفلاحية من دعم وغيره معتبرا هكذا ممارسة غير قانونية لأنّ بطاقة الانخراط هي وثيقة انتماء للمنظمة وليست هوية مهنية. ومن هذا المنطلق طالب المتحدث الإدارات الفلاحية ومنها وكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية إلغاء شرط الاستظهار بشهادة الانخراط النقابي للتمتع ببعض الامتيازات. كما تم التأكيد على وجوب ضمان استقلالية تعاضديات الخدمات الفلاحية وتحريرها من سلطة الإدارة على خلفية أن الإشراف على تسييرها موكول لإداريين وليس للفلاحين. ويعتبر المتحدث تدخل الوزارة في تسمية مسؤولي بعض المؤسسات ذات الطابع المهني والتي يساهم الفلاح في تمويلها من قبيل المجامع المهنية المشتركة والمعهد الوطني للزراعات الكبرى عملية لا تخلو من ممارسة الوصاية بشكل أو بآخر على قرارات هذه الهياكل ولا تعكس حيادية وزارة الفلاحة في قطاع يفترض الفصل بين السياسي والفلاحي.